عيد جسد الرب ودمه الأقدسين
جسدي طعام حق ودمي شراب حق! (يو 6: 51-59)
عيد اليوم هو عيد كاثوليكيٌّ محض، يحتفل به الكاثوليك وحدهم. وهو إعادة ليوم خميس الأسرار، يوم العشاء الأخير، الذي فيه أسّس المسيح هذا السر العظيم، سرَّ وُجوده الدّائم بيننا، تحت شَكلّي الخبز والخمر. لكن لضيق الوقت في الأسبوع المُقدَّس لم نحتفل به كَما يليق. لذا خصصت له الكنيسة يوماً كاملاً للتأمل بمعناه وإكرامه إكراماً لائقاً. هذا وأن الإحتفال به يختلف عن كلّ الأعياد الباقية، إذ إلى جانب الإحتفال في الكنيسة بإقامة الذبيحة المقدسة، وهي إعادة لحفلة العشاء السري، الذي أقامه يسوع مع تلاميذه، وأثبت لهم فيه وجوده الكامل تحت شكلي الخبز والخمر، تتبعه بتطواف شعبي جميل، يحمل فيها القربان معروضا بشعاع ذهبي، كي يراه الجميع، تحت خيمة محمولة في وسط الحضور والمشتركين، تيمناً بتابوت العهد القديم، الذي كان محفوظاً به خبز المنّى العجائبي، الّذي أكله الشّعب 40 سنة في البرية، ورغيف الخبز الذي أكل منه إيليّا وسار بقوّته أربعين يوماً وأربعين ليلة من جبال جلعاد حتّى وصل جبل الكرمل في الجليل. والقربان هو غذاء نفوسنا على طريقنا الطّويل.
كما وكانت محفوظة في تابوبت العهد أيضاً عصى موسى، التي صنع بها العجائب أمام فرعون ولوحات الوصايا العشرة، التي سلّمها الله لموسى على جبل سيناء وحلف له الشّعب بالحفاظ عليها. خيمة (مسكن) ربِّنا في وسط شعبه، يرافقه على كلّ طرقاته، كما رافقه على طريق العودة من عبودية فرعون إلى الخروج سالماً والسّير معه في الصحراء، لينصره في مقاومة أعدائه. هذا وهو سوف يسير مع المبشِّرين إلى البلدان البعيدة والغريبة، ليُحل عليهم نِعَمَه حتّى يصلوا سالمين إلى ميناء الخلاص.
نطوف به في أكثر شوارعنا ونقف به في عدّة مراحل، طلباً لبركة قُرانا ومدننا وسكانها. كما ولا ننسى بركة حقولنا وبساتيننا ومزارعنا، التي نعيش من ثمرها وأنتاجِها. هذا وقد جرت العادة أن يشترك في هذا التطواف كلّ الفِرق العاملة في الرعايا، ابتداء من أولاد المناولة والتثبيت ثم الفرق من شبيبة وكشّافة وأخويّات تحمل فيها الأعلام الكنسية والمريمِيّة والفاتيكانيّة، بلونها المعروف، أبيض، أزرق، أصفر. وهذا دليل على ارتباط الكاثوليك مع بعضهم البعض على القارّات الخمس وفي كلّ أنحاء المعمورة.
لقد أحبَّ الله العالم والبشر، وإلاّ لما أوجَدَتْ محبته هذه الأعجوبة الخارِقة، ليُبرهِن فيها عن بقائِه الدَّائِم بيننا. وللتأكيد على أنّهُ باقٍ معنا، أعطى كنيسته التي أسَّسها، إمكانيّة تكرار وتجديد هذه الأعجوبة، ليس فقط في كنيسة مُعيَّنة أو في مكان محدود، ولكن في كلّ كنيسة وفي كلّ زمان ومكان، وذلك على يدِ كهَنَته، الذين أوكلّ إليهِم في نفس الوقت سلطة تكرار وتجديد وجوده بيننا بالكُلِّمات: “خذوا كلوا واشربوا. ثمَّ أضاف قائلاً: “اصنعُوا هذا لذكري” (لو 19:22). فالكنيسة ما أوجدت هذا السّر الّذي نُسمِّيه الإفخارستيا، إنما الإفخارستيا هي التي توجد الكنيسة، التي تجتمع للإحتفال بهذا السّر. فكم هو جميل أن نشترك في صلاة القدّاس وتناول القربان المقدّس، الذي، بقدر استعدادنا واتكالِنا عليه، يمنَحُنا قوة داخلية لمُقاومة الشّر وتقديس نفوسِنا.
فعيد اليوم هو الإحتفال الشّعبي والعلنِي الّلائِق ببقاءِ الرّبِّ العجيب بيننا. ونحن بخروجنا معه على الشّوارع لا نريد المظاهرات والمطالبة بالحصول على حقوق مهضومة، بل لِنُعبِّر له عن حبنا واحترامنا وتقديرنا الجماعي. وخاصّة لنعلن له عن إيماننا به، هو الحيّ اللامنظور في القربان الّذي يُغذِّي حياتنا الرّوحيَّة. نعم هو قوتنا ورفيق حياتنا. وكم هو مؤثّر لنا أن نسمع من الإنجيل تأكيده: “أنا الخبز الحيّ النّازل من السّماء. من يأكل من هذا الخبز يحيى إلى الأبد” (يو 51:6). هو غذاؤنا الرّوحي الّذي رَمَز إليه رغيف الخبز، الّذي فاجاَ به ملاكٌ من السّماء النّبيّ إيليّا، وأمره أن يأكل منه ويشرب من جرّة الماء إلى جانِبِه. وهكذا كان. فمن بعد ما أكل إيليا من هذا الخبز وشرب من الماءِ الحيّ، قدر أن يسير مدّة 40 يوما و40 ليلة حتّى وصل جبل الكرمل، جبل الرّب، دون أن يشعر بالجوع والعطش ودون أن تخور قِواه (1 ملوك 19: 4-8).
في هذا المعنى، من لا يتذكَّر ما فعل الله مع شعبه في الصّحراء، وكيف اهتمَّ بإطعامه بالخبز السّماوي (المنّ) وإيجاد ينبوع ماء في صحراء مَؤآب بأعجوبةـ حيث أمر الله موسى أن يضرِب بعصاه الّتي تحوّلت إلى أفعى ثم إلى عصا أمام فرعون ليُقنِعه بأن الله يريد تحرير شعبه. وبضربة يهذا العصا على مياه البحر الأحمر شقَّ بها البحر إلى شقَّيْن، فمرَّ الشّعب سالماً على اليبس. نعم بهذا العصا، أمره الله من جديد أن يضرب على صخرة كان الشّعب واقفاً حواليها، فانفجر من جوفها نبع ماءٍ صافٍ، هي عين موسى، الّتي لا تزال مباهها تتفجّر إلى اليوم في الصحراء القاحلة وتنعش السكان والمنطَقة، الّتي يُقال عنها أنّهُا أجفّ آخرُ حدود الصحراء العالمية الكبيرة المُمْتَدّة من أستراليا، مروراً بأفريقيا إلى آسيا، قبل أن تبدأ أرض الميعاد، الّتي هي أخصب منطقة في العالم، حيث قالت عنها التّوراة، هي “الأرض الّتي تدرُّ لبناً وعسلاً” (تثنِية 10:10).
فصانع هذه العجائب القديمة، هو الذي زوّدنا بأعجوبة وجوده بيننا تحت شكلي الخبز والخمر، ليقوِّبنا في مسيرتنا إلى وطننا السماوي، حيث سنحتفل معه بالوليمة، التي طالما اشتاق أن يأكلها مع تلاميذه قبل أن يتألَّم (لو 22: 15-16). “الحقَّ أَقول لكم أني لا أَشرب بعد من نِتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله” (مر 25:14).
أننا لا نلاقي لا جواباً ولا تفسيراً بشريّاً لعمل الله هذا الدّائم بالإهتِمام بنا، إلاّ في كلمة واحدة، تسُدُّ عن كلّ الوصايا والتّعليمات في ديانتنا، وهي كلمة المحبّة. الله محبّة. والمحبّة الصّادقة لا تُريد الانفصال أو الإبتعاد، بل تفضّل البقاء مع من تحب. وهكذا الهم، فقد سكن بيننا وبقي معنا لأنّه أحبّنا “إن نعيمي أن أكون بين إخوتي”.
فبخروجه معنا إلى شوارعنا، لا يعني أنّه فقط مقيم عندنا بل ويسير معنا ويرافقنا. فلنرافقه اليوم بكل خشوع واحترام وشكر وتقدير.
كلمة للتأمل: الحجر لا يحتاج إلى شيء كي يبقى حجراً. أمّا الورود والكائنات الحيّة فتحتاج إلى الهواء والغذاء والنور. الإنسان، كي يبقى على الحياة، بحاجة إلى غذاء للجسد والروح والقلب. يحتاج إلى الخبز اليومي ليتقوى. يحتاج إلى غذاء فكري لتنمو شخصيته العقلية. ويحتاج إلى الحب الذي يأخذ ويعطي حتى يكتمل.
الإنسان المؤْمن بيسوع هو بحاجة إلى خبز الحياة، ليحيا وينمو. إلى الغذاء الإلهي. بهذا يصبح بشرياً أكثر، بل ويصبح حيث هو يعيش غذاءً ضدّ الجوع في العالم.