فيض النّور السنوي: هل نحتفل فيه بالقيامة؟
الأب نقولا سجيع الشامي
“الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ».” (مت ١٦:٤ ، اشعيا ٢:٩)
إنّه سبت النّور الّذي كان قبلاً سبت الاستراحة، سبت الموت والظّلمة والنّهاية.
هو السّبت الّذي نزل فيه المسيح إلى الجحيم ومكث في الموت.
١. فَكيف حصل هذا النّزول؟ وماذا يعني؟
لقد اختبر الآباء القدّيسون، ومنذ الكتابات الأولى، هذا النّزول، أي نزول المسيح إلى عالم الموت قبلاً أو عالم الشّيطان والظّلمة؛ فميّزوا بين طبيعتَي المسيح البشريّة، أي جسده ونفسه البشريّتين، وطبيعته الإلهيّة.
فالطبيعة الإلهيّة لم ولن ولا تتألّم البتّة، وهي لا تتغيّر ولا تموت؛ أمّا الطبيعة البشريّة ففيها نميّز بين جسدٍ ونفس:
أ. طبيعة المسيح البشريّة، من حيثُ الجسد، تتألّم ويعتريها التغيّر لتموت ولكن بإرادته الحرّة، وهي، مِن ثَمّ، رقدت ونامَت في القبر، ولَم يُصاحِبها انحلال أو فساد، لأن طبيعة المسيح الإلهيّة ما تركتها وما انفصلت عنها.
ب. وطبيعة المسيح البشريّة هي، من حيثُ النفس، تتأثّر كأيّ نفسٍ بشريّة، بما للجسد، ولكن لا ترقد بل تذهب إلى عالم الجحيم بعد الموت.
أما طبيعته الإلهيّة فقد بقيت منزّهةً عن أيّ تغيّر؛ مع الآب والرّوح القدس، وفي الوقت عينه مع نفس المسيح البشريّة، ومع جسده البشريّ.
٢. ما علاقة ذلك بالنّور الإلهيّ؟
وإذ ينبع النّور الإلهيّ، غير المخلوق والمؤلّه، من الجوهر الإلهيّ، منذ الأزل والى الأبد، وإذ هُوَ موجودٌ مَعَ المسيح في طبيعته الإلهيّة المتّحدة مع طبيعته البشريّة دون اختلاط، حتّى في الموت،
امتنع ضبطه في القبر عند موت المسيح، فسطع، عند موت المسيح، من نفسه البشريّة وعلى كلّ الّذين في الجحيم، وحلّت القيامة على الأموات، لأنّهُ هو النّور المحيي.
ففي اللّحظة الّتي مات فيها المسيح على الّصليب، ونزلت نفسه إلى الجحيم، تمرمرت هذه الجحيم، ولم يعد للشّيطان السّلطة عليها، نتيجة النّور الّذي فاض من يسوع في ظلمة الموت؛ فقام الرّاقدون وتراءى عددٌ كبير منهم في المدينة عند موت المسيح وقبل قيامته.
لذلك، يكون سبت فيض النّور هو سبت القيامة لعالم الرّاقدين، لا لعالم الأحياء.
٣. فَهل نحتفل، ونحنُ الأحياء، عند فيض النّور، بالقيامة؟
أصبح واضحًا لنا أنَّ فيض النور لا يعني أنَّ جسد المسيح قد قام من القبر، إنَّما يؤكّد بقاء جسده في القبر، في هذا اليوم؛ حيثُ أفاض من نفسه النّور على الأموات في القبور، فأقامهم إمّا الى فرح، إمّا إلى حُزن.
مع الإشارة إلى أنّ الآباء القدّيسين قد وضعوا الخدمة اللّيتورجيّة لفيض النور لتُقام في منتصف النّهار بتوقيت القدس، يَليها فيض النّور حوالى السّاعة الثّانية من بعد الظّهر… حين تكون مناطق العالم كلّه حتّى أقصاها، إمّا في آخر لحظات السّبت كمنطقة Apia، إمّا في بداية لحظاته كمنطقة Pago Pago… وكأنّ في ذلك تدبيرًا إلهيًّا سبق اكتشاف الكرة الأرضية كلّها، لكي لا يحصل لاحقًا تشوّش عند النّاس، فيفيض النّور، حسب أوقاتهم، يوم الأحد بدلاً من السّبت.
ولهذا، ترانا، يوم السّبت، نكثّف صومنا، نحن الأحياء، ونلبث مترقّبين قيامة جسد يسوع من القبر بصرخةٍ قلبيّةٍ عميقة مملوءة بالرجاء المؤكّد: “قم يا الله واحكم في الأرض”، حتّى تحصل قيامة الربّ يوم الأحد، فنهتف: المسيح قام! حقًّا قام! من هنا عظمة الخدمة اللّيتورجيّة الّتي تواكب فيض النّور سنويًّا، فتجعلنا نعيش هذه الأحداث وفق تدرّجها، وبها تتعلّق سيرورة حياتنا الكنسيّة كلّها.
فأيُّ احتفال بالقيامة، أي قيامة جسد يسوع من القبر، قبل يوم الأحد، إنّما هو تشويهٌ لمكوث يسوع في القبر لثلاثة أيّام؛ ويُعَدّ ذلك، بالتّالي، تشويهًا لحقيقة موت المسيح الّتي كانت حتميّة. فقد اختار يسوع أن يمكث ثلاثة أيّام في القبر، لا يومًا واحدًا، تأكيدًا لموته وتأكيدًا، بالتّالي، لحدث قيامته من الموت على حدّ تعبير الآباء القدّيسين. وعندما نخالف ذلك فإنَّنا نخالف أخذ المسيح طبيعتنا المائتة، كما هي، لكي يقيمها.
نتيجة لذك، لا نقلنّ، يوم السّبت، عند فيض النور المقدّس، “المسيح قام”، احتفالًا بقيامته، بل “المسيح نزل، المسيح مات”، احتفالاً بموته المحيي للموت. أمّا هتاف “المسيح قام” فهو محصور في أحد القيامة، ومتلازم مع الخدمة اللّيتورجيّة الّتي تنقلنا مع النّسوة الى معاينة القبر الفارغ بالرّوح القدس. فإنّنا، حتّى ولو رأينا وتسلّمنا النّور المؤّكد لإماتة الموت، فإننا لا نهتف “المسيح قام” إلاّ مع النّسوة في إنجيل سحر الفصح، حين يُصبح النّور رمزًا لقيامة المسيح. فالنّور الّذي أفاض السّبت على الراقدين، يُديم الآن فيضه على الأحياء بقيامة المسيح الّتي نعيشها روحيًّا في خدمة يوم الأحد اللّيتورجيّة.
إذًا، هناك فصل بين سكنى المسيح في الموت، من جهة، وقيامة المسيح، من جهة أخرى… فسكناه في الموت، كلّ سنة ليتورجيّة، تعني أنّ الموت ابتُلع وما زال وأُبيد بالقِوى الإلهيّة الّتي تجلّت – كما عند تجلّي المسيح في ثابور – بالنّور الّذي أظلم الشّمس الحسّيّة؛ أمّا بالنسبة إلى قيامة الأجساد، وهي الغاية الأسمى من التجسّد، فقد دُشّنت في اليوم التّالي للسّبت، أي اليوم الثّامن، يوم الأحد؛ وهو اليوم الزّمنيّ الحاليّ لتجلّي الملكوت روحيًّا، أعني اليوم الّذي فيه أقامت طبيعة المسيح الإلهيّة جسده من القبر، فافتتحت، رمزيًّا، قيامة أجسادنا في اليوم الثّامن، أي اليوم الأخير.
ولهذا وعلى الهامش، نكرّم جسد كلّ إنسان راقد تكريمًا لائقًا، ولا نستأصل عند موته أيّ شعرة منه، حتّى بعد انحلاله إلى تراب، لأنّه سيقوم في اليوم الأخير، كيفما كان، إلى حياة أبديّة، وبصورة بهيّة نورانيّة.
٤. لماذا يفيض المسيح نوره سنويًا؟
تُختصر غاية التجسّد الإلهيّ بحدثين:
أ. نزول نفس المسيح البشريّة إلى الجحيم ليبيدها بنوره الإلهيّ، فاتحًا للنّفس البشريّة التألّه بعد الرّقاد.
ب. قيامة جسد المسيح البشريّ بنوره الإلهيّ أيضًا، فاتحًا للجسد البشريّ القيامة في اليوم الأخير.
وكأنّ بالمسيح تجسّد ليعطينا نوره الإلهيّ حصرًا، فنعاينه من خلال هذا النّور (“بنورك نعاين النور”).
إذ لم تكن الغاية أن نُشفى من أوجاعنا الجسديّة، ولا أن نُعمّر، إنّما أن نأخذ هذا النّور الإلهيّ المبيد لظلمة الموت.
فأكثيرٌ أم مستعصٍ عند الله أن يكشف لنا سنويًا بأنّ نوره لا يزال يشعّ في الجحيم؟!
أوَ لسنا بحاجة، نحن الضّعفاء، إلى من ينزع عن قلوبنا، وبحركة حسّيّة، الخوف من الموت الحسّيّ؟
وهل يعمل الله بالرّوحيّات دون المحسوسات؟
عندما ارتبط النّور المقدّس بالخدمة الليتورجيّة، مثله مثل أيّ تجلٍّ إلهيٍّ أو تألّه مرتبط بالخدمة الليتورجيّة الإلهيّة، بات يدخل البطريرك الأورشليميّ، وفق خدمة ليتورجيّة موضوعة، إلى القبر المقدّس، يوم السّبت العظيم، مُعلنًا، حين فيض النّور، تجدُّد استنارة الأموات وقيامتهم، وتثبيت الحقيقة الإلهيّة وعظمة الله، ووجوده الدّائم معنا بالنعمة الإلهيّة المتجلّيّة بالنور المقدّس وبقدرته الّتي تتخطّى منطقنا. فيوم السّبت يفيض نور المسيح على الرّاقدين وعلى الأحياء، فنتأكّد تأكيدًا ملموسًا أنّ المسيح منتصرٌ دائمًا على الموت، وهو يُنهض أنفس الرّاقدين الأبرار، كما نشدّد إيماننا الّذي أصبح إيمانًا متزعزعًا ومادّيًّا ينظر إلى الموت من منطلق عقليّ محدود.
إنّ حقيقة فيض النّور سنويًّا، يوم السّبت العظيم المقدّس، لهي أمرٌ لا تعوزه مناقشات ومبارزات إعلاميّة وتحدّيات لإثباتها؛ بل لعلّها الحدث التّاريخيّ الأكثر إثباتًا، ومن البعيد قبل القريب؛ وذلك على أمل توبة تلك القلّة القليلة الّتي تدّعي الانتماء إلى الكنيسة، فتستغلّ “أناها” المشكّكة، حبًّا للظّهور، وصولاً إلى إنكار المسيح، والتّشكيك في قدراته. فبخلاف ما تزعم، ليس الله بمحدود في العقل والروح، وهو ليس بعاجز عن الإتيان بالملموسات. لذلك، يجدّد المسيح، سنويًّا، فيض نوره من خلال الخدمة اللّيتورجيّة، وفي ذلك:
أ. تأكيد أنّ الخدمة اللّيتورجيّة حقيقيّة، وهي غاية المؤمن؛ فبواسطتها نعيش أحداث المسيح على حسب روحانيّاتها، ونبلغ بها التألّه، بعد جهادنا نسكيًّا؛
ب. تثبيت لنا في مواجهة الموت، وذلك بالنّور دائم الفيضان على عالم الموت.
فصحيح أنّ المسيح تجسّد ليفيض نوره علينا، لكنّ الغاية الأعمق لتجسّد المسيح هي قيامة الأجساد. وإذ عاينه تلاميذه حين قام، والأبواب مغلقة، غير أنّنا لن نعاينه إلاّ في اليوم الأخير. بالتّالي، نحن لا نملك من الملموسات سوى ما اختبره عدد من الآباء القدّيسين بالمعاينة، كما في مرآة، ومن خلال عيشهم لحالة الجسد الروحانيّ.
وإذ أعلمنا المسيح أنّه سيترك شاهدًا ملموسًا على غلبته للموت، ها هو فيض النّور يُشير إلى انتصار المسيح المستمرّ على هاجس الكون منذ السقوط، أي الموت.
إذًا، ليس هذا النّور مجرّد رأي نتعارض فيه، ولا هو قابل للاجتهادات أيضًا، بل هو في صلب العقيدة الأرثوذكسيّة القائمة على خلاص الإنسان بواسطته. ولأجل هذا، رأى المسيح أن يفيضه كلّ سنة، علامةً على غلبته الدّائمة.
أمّا أنا فعليّ أن أغتنم فيض النّور بالتّوبة، منيرًا نفسي لكي أستحقّ حمل هذا النّور، فأكون أرضًا صالحة لهذا الحقّ!