دير القدّيسة تقلا معلولا البطريركيّ
المصدر: كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي”، منشورات جامعة البلمند، 2007.
يقع الدير في بلدة معلولا التي تبعد عن دمشق حوالي 56كم والتي ترتفع عن سطح البحر بمقدار 1500م مازال أهلها يتكلمون لغة السيد المسيح حتى الآن هو دير للراهبات اللواتي كرسن حياتهن للعبادة وخدمة الدير .
بجوار مقام القديسة تقلا بنى المسيحيون مذبحاً لإقامة الصلوات الإلهية وكان ذلك في القرون الميلادية الأولى ومازال حتى اليوم بمكانه المحفوظ . وكان القاصد زيارة قبر القديسة تقلا يصله صعوداُ على السلالم الخشبية وترابية ومع تقدم الأيام آل إلى حالته الحاضرة
وفي الدير كنيسة واسعة تجدد بناءها منذ 60 سنة ومتحفاً وأبنية خارجية لسكن الزوار والبناء يتجدد إلى يومنا هذا، كما يوجد قرب الدير فج مار تقلا المحاذي له بما فيه من نتوءات وتجويفات وأماكن واسعة وضيقة أبدعتها يد الخالق ، ويؤم الدير في كل عام وخاصة في هذه الأيام العديد من السائحين العرب والأجانب المسيحيون لزيارة هذا الدير وزيارة قبر القديسة تقلا .
دير القدّيسة تقلا في قرية معلولا، محج يستقطب المؤمنين من سورية والدول المجاورة. يبعد خمسة وستّين كيلومترًا عن دمشق إلى الشمال الشرقيّ، ويرتفع ألفًا وستمائة متر عن سطح البحر. معلولا، هذه القرية، استظلّت آخر سلسلة من السلاسل الجبليّة الثلاث، التي تشكلّ منطقة القلمون، فتمتّعت بعزلة وحماية طبيعيّتين، ما يفسّر، إلى حدّ كبير، ثبات سكّانها على الإيمان المسيحيّ وتمسكهم بالآراميّة لغّتهم الأصليّة.
يحمل اسم معلولا معنى “الدخول” باللغة الآراميّة، ويدلّ على موقع القرية في ثغرة ممرّ جبليّ ضيّق. وقد ذُكر اسم معلولا في المؤلّفات الكلاسيكيّة، كما وجدت في البلدة آثار عدّة من بينها تماثيل وأصنام. والأهمّ من ذلك كلّه، القناطر والمقابر والنقوش من المرحلة الهلينستيّة، التي عُثر عليها في عدد من المغاور الموجودة فوق القرية، وبقايا معبد رومانيّ في السهل المجاور. فمعلولا تضمّ العديد من الكنائس ولكن معظمها اليوم مهدّم وهي: كنيسة السيّدة، كنيسة القدّيس توما، كنيسة القدّيسين قزما ودميانوس، كنيسة القدّيسة بربارة، وكنيسة القدّيس جاورجيوس وسواها. عند مشارف القرية يقوم دير القدّيسين سرجيوس وباخوس، للروم الكاثوليك المعروف بدير مار سركيس، وكان يشكّل، في ما مضى، ديرًا واحدًا مع دير القدّيسة تقلا، وذلك قبل انفصال الكنيستين في العام 1724.
تروي الأسطورة أنّ القدّيسة تقلا سليلة عائلة وثنيّة نبيلة من منطقة القلمون. لكنّها أرادت اعتناق المسيحيّة، ففسخت خطوبتها، التي دبّرها والدها مع رجل وثنيّ، وهي في الثامنة عشرة من عمرها، ثمّ هربت من منزل ذويها. وتروي الحكاية، الأكثر شهرة، أنّ الجنود الرومان الذين سعوا وراءها لقتلها، كادوا يقبضون عليها عندما بلغت السلسلة الثالثة من جبال القلمون. وعندما اقتربت من معلولا وجدت الطريق مسدودًا بمرتفع صخريّ شاهق، ولكن ما إن طلبت رحمة الله، حتّى انشقّ الجبل بأعجوبة، فاستطاعت أن تعبر إلى المغارة التي عاشت فيها بقيّة حياتها.
هذا المخبأ، حفرت القدّيسة تقلا الينبوع، الذي يقال إنّ مياهه تبرىء المشلول وأمراض المفاصل والعقم. عاشت هذه القدّيسة، سنوات عدّة في المغارة، وكانت تشفي المرضى وتبشّر بالإيمان المسيحيّ، حتّى توفّيت وهي في سنّ التسعين. ينتشر تكريم القدّيسة تقلا على نطاق واسع، وشهرة ديرها توازي تلك التي يحظى بها دير صيدنايا المجاور (الذي يُعتقد أنّ فيه إيقونة أصليّة للعذراء مريم رسمها القدّيس لوقا نفسه)، وتجتذب شهرة القدّيسة تقلا، في شفاء الأمراض، العديد من الأشخاص لزيارة ديرها وإيفاء النذور. اليوم، يقيم حجّاج الدير وزوّاره في بيت الضيافة التابع له. أمّا في السابق فكان المتضرّعون يمضون فترة بعد الظهر والليل في المغارة، ويسجدون فجرًا أمام الإيقونسطاس، ويشربون من مياه الينبوع المقدّسة. وإذا كان المتضرّع امرأة حاملاً، فتقتضي العادة بأن تأكل خصلة من فتيل مصباح الزيت المضاء في المغارة. والذين تحول شدّة مرضهم دون ذهابهم شخصيًّا إلى معلولا، يرسلون صلواتهم المكتوبة بواسطة زوّار الدير ليضعوها عند قبر القدّيسة. واللافت أنّ تكريم القدّيسة تقلا ذائع في سورية، بين المسلمين أيضًا. فرغم انتشار الإسلام، في المنطقة حافظ السكّان المحلّيّون على إيمانهم بالقدّيسة تقلا، ما سمح باستمراريّة الدير وازدهاره. ومن الملاحظ أنّ العديد من الصلوات التي ترفع إلى القدّيسة تقلا، في مغارتها، تسبقها آيات قرآنيّة. وقد نال العديد من المسلمين، جوابًا عن توسّلاتهم الحارّة، بركة إنجاب الأطفال. تاليًا يقوم بعضهم بتعميد أطفاله علامةً على احترام القدّيسة. وللقدّيسة تقلا أهمّيّتها في لبنان أيضًا، وبخاصّة في قضاء المتن، حيث كرّس العديد من الكنائس على اسمها.
يتبع دير القدّيسة تقلا البطريركيّة الأنطاكيّة في دمشق مباشرة، وتشرف عليه أمّ رئيسة وتقطنه سبع راهبات. وكما في الأديار الأرثوذكسيّة الأخرى، فالصلاة هي قوام حياتهنّ اليوميّة. تصلّي كلّ راهبة في الصباح منفردة، والصلاة الجماعيّة تقام ثلاث مرّات في الأسبوع. وبما أنّ دير القدّيسة تقلا هو مزار مقدّس يقصده الكثير من سكّان منطقة القلمون، والمسيحيون في الشرق الأدنى، فالراهبات مستعدّات دومًا لاستقبال الزوّار ومرافقتهم خلال تطوافهم في أرجاء الدير. من ناحية أخرى، ينظّم الدير نشاطات رعائيّة باستمرار، ويؤمن الكاهن خدمة القدّاس الإلهيّ في أيّام الآحاد والأعياد. تعمل الراهبات معًا على تنظيف أبنية الدير والاعتناء بها، ولكنّ التقليد ينصّ على أنّ الاعتناء بمغارة القدّيسة تقلا يُعهد به إلى الراهبة الأكبر سنًّا.
بالإضافة إلى هذه الواجبات، تمارس الراهبات بعض الأعمال اليدويّة كالخياطة والتطريز وصنع المسابح وترصيع الإيقونات باللآلئ. أُسّس ميتم صغير يضمّ اليوم عددًا من الأطفال. الراهبات لا يتركن الدير إلاّ من أجل الإشراف على الأعمال الزراعيّة، في الحقول المجاورة، أو أحيانًا للسفر إلى دمشق من أجل شراء الحاجات التي لا تتوفّر في معلولا.
تاريخ الدير
تحولت منطقة القلمون للمسيحية، في القرن الرابع، وهي الحقبة التي تأسّست فيها الأديار الأولى. وفي الواقع فإنّ رهبان معلولا حافظوا على مخطوطات مسيحيّة من هذه الحقبة. بلغ الإسلام تلك المنطقة في القرن السابع، إلاّ أنّه انتشر في القلمون ببطء وتدريجيًّا، واستقرّ في سلسلة الجبال الأولى والسهول، قبل الوصول إلى السلسلة الثانية في القرن التاسع. تغلغل الإسلام في السلسلة الثالثة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. فبقي عدد من البلدات والقرى مسيحيًّا، حتّى اليوم، ومنها صيدنايا، المعرّة، ومعلولا التي تضّم أكثريّة مسيحيّة تتوزّع بين طائفتَي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك.
اتّسعت رقعة انتشار اللغة الآراميّة في أرجاء الشرق الأوسط، حتّى بعد نشوء الإسلام في العام 634، رغم أنّها أفسحت المجال تدريجيًّا للّغة العربيّة. ومعلولا معروفة بحفاظها على اللغة الآراميّة. ولهذا السبب لطالما اجتذبت هذه البلدة الباحثين اللغويّين الغربيّين، الذين ساهمت أبحاثهم في فهم اللغة الآراميّة، وأهمّيّتها في الأزمان القديمة. أمّا اليوم، فتبقى اللغة الآراميّة هي اللغة المحكيّة بين سكّان معلولا والقريتين المجاورتين المسلمتين جبعدين وصرخا. لكن هؤلاء بمعظمهم لا يستطيعون قراءة الآراميّة وكتابتها، ومع الغرباء يضطرّون إلى استخدام اللغة العربيّة. ونتيجة ذلك استعارت آراميّتهم الكثير من الألفاظ العربيّة، وهي تاليًا بعيدة جدًّا عن أصلها الكلاسيكيّ.
يرد في حوليّات ميخائيل البريك أنّ كنيسة القدّيسة تقلا وكنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان، أعيد بناؤهما في العام 1756. ويتحدّث القنصل الروسيّ أوسبنسكي عن وجود أربعة رهبان في دير القدّيسة تقلا في العام 1840.
يقع دير القدّيسة تقلا الحاليّ حول المغارة التي يقال إنّ القدّيسة لجأت إليها، وأمضت فيها بقية حياتها. في العام 1906، شُيّدت كنيسة بالقرب من الموقع المقدّس وفوق بقايا كنيسة قديمة لا يُعرف تاريخ بنائها. بدأ بناء الدير في العام 1935 وقد أضيف إليه طابق ثانٍ في العام 1959. الطابق الأرضيّ يحتوي على غرف استقبال وطعام ومعرض المصنوعات الحرفيّة. أمّا الطابق الثاني فمخصّص بكامله لصوامع الراهبات. تحت هذا المبنى مطبخ فيه فرن حجريّ لصنع الخبز، وفوقه يقوم بناء آخر يعود إلى العام 1888، أعيد ترميمه مؤخّرًا ليكون مسكنًا للبطريرك. كما شيّد بيت ضيافة لاستقبال السيّاح والزوّار في العام 1934. فوق سطح مبنى الدير الرئيس ثمّة درج يؤدّي مباشرة إلى مزار القدّيسة تقلا، أي إلى المغارة الصخريّة التي ترقى إلى العصور المسيحيّة الأولى. تقسم هذا المغارة إلى نبع مقدّس وكنيستين صغيرتين رمّمتا مؤخّرًا.
الإيقونات
تتوزّع الإيقونات بين الإيقونسطاس في كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان، ومغارة القدّيسة تقلا، وجناح الأمّ الرئيسة. ويحمل كلٌّ منها تاريخًا، يتراوح بين أواسط القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر، باستثناء بعض الإيقونات المعاصرة من القرن العشرين.
إيقونات القرن الثامن عشر تتقدّمها ثلاث، رسمها البطريرك سلفستروس، وهي موجودة اليوم في كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان. الأولى، تمثّل المسيح مباركًا بيده اليمنى، وحاملاً بيده اليسرى الإنجيل فوق حضنه. القدّيس يوحنّا المعمدان يقف إلى اليسار، وهو مائل باتجاه المسيح مباركًا بيمينه، بينما في يده اليسرى كتاب مفتوح، كُتب عليه باللغة العربيّة “هذا هو حمل الله الرافع خطايا العالم”. الإيقونة الثانية تمثّل العذراء والطفل على ذراعها اليسرى مائلاً نحو والدته وعيناه تتّجهان إلى مُشاهدَ الإيقونة. إلى يمين العذراء والمسيح تقف القدّيسة تقلا حاملة صليبًا معدنيًّا بيدها اليمنى، وراسمة إشارة الصليب باليد اليسرى. أمّا الإيقونة الثالثة فتمثّل البشارة: الملاك جبرائيل يقدّم وردة إلى مريم التي تمدّ يدها لتتناولها.
في مغارة القدّيسة تقلا إيقونتان. الأولى تمثّل القيامة: فالمسيح المتجلّي بالنور يبارك بيمينه ويحمل راية بيساره؛ عن يمينه ملاك وعن يساره النسوة حاملات الطيب، وفي الأسفل ثلاثة حراس، صوّر كلّ منهم بوضعيّة مختلفة. خلف هذا المشهد رُسمت المدينة والحدائق المحيطة، وقت انبلاج الفجر، الذي يضيء بنوره على الجميع. الإيقونة الثانية في المغارة هي إيقونة ميلاد العذراء ونرى فيها الطفلة مريم، وقد رُفعت على يد الملاك لتتكلّل وتمتلئ من الروح القدس.
في جناح الأمّ الرئيسة مزيد من الإيقونات إحداها للملاك ميخائيل والأخرى للقدّيس موسى الحبشيّ. أمّا الثالثة فللنبيّ إيليّا جالسًا عند باب كهفه وطيور الغراب تحضر له الطعام. أخيرًا، في هيكل كنيسة الدير إيقونة صُوّر فيها قدّيسان يُرجّح أنّهما قزما ودميانوس.
إيقونات القرن التاسع عشر موجودة في كنيسة الدير أيضًا. المجموعة الرئيسة في الجزء العلويّ من الإيقونسطاس تمثّل ميلاد والدة اإله والخثانة والرقاد ومعموديّة المسيح والتجلّي والإنزال عن الصليب والقيامة والعنصرة. وهناك ثلاث إيقونات كبيرة رسمت على القماش. الأولى للقدّيسة تقلا وفي الاثنين مشاهد من الإنجيل ومن حياة القدّيسين.
في كنيسة الدير، صليب خشبيّ يحمل صورة السيّد المصلوب في الوسط، تحوط به العذراء والرسول يوحنّا ورموز الإنجيليّين الأربعة، وإلى جانبه إيقونة القدّيسين سرجيوس وباخوس الممتطيين جوادين واللابسين ثياب الجنود. أمّا المجموعة الأخيرة من إيقونات القرن التاسع عشر، في دير القدّيسة تقلا، فتنتمي إلى المدرسة القدسيّة، المعروفة بمزجها بين الأسلوبين الشرقيّ والأوروبيّ؛ ومن بينها أربع إيقونات من تنفيذ ميخائيل مهنّا القدسيّ، وهو من ألمع رسّامي هذه المدرسة.
معلومات اضافية أخرى
دير القديسة تقلا فهو من أقدم الأديار الرهبانية في بلاد الشام، يعود إلى القرن الرابع الميلادي ويمكن أن نؤكد أن الدير بُني على مرحلتين، المرحلة الأولى وهي المغارة المتسعة الواقعة في بطن الجبل الشرقي والمطلة على الدير الحالي.
في ركنها الجنوبي يقع مقام وضريح القديسة وسبق لبطريرك أنطاكية العظيم مكاريوس بن الزعيم أن أكّد دفنها فيه.أما في جهة المغارة الشرقية فتقوم كنيسة قديمة مغلقة وفيها مائدة حجرية ومذبحها منقور في الصخر وبين المقام والكنيسة نبع ماء يتبرك المؤمنون بالشرب منه ومسح جباههم بإشارة الصليب المكرّم. وفي الركن الشمالي الشرقي من المغارة ينقط الماء من سقف المغارة إلى صحن مرفوع على قاعدة تماثل العمود بارتفاع متر تقريباً كان يدهن منه المرضى الذين يفدون إلى القديسة للعلاج. وبجانبها شجرة تعود إلى عهود سحيقة ومن الملفت للانتباه أنها نمت في المغارة.
رفعت قناطر من الجهة الغربية للمغارة حيث إطلالة جميلة على الدير الحالي وعلى البلدة.ويمكن الوصول إلى هذا المقام الشريف عبر درج يؤدي إلى ساحة الدير الحالي الداخلية.
أما الدير الحالي فمما لا شك فيه أنه بُني في أواخر القرن الثامن عشر حيث قامت متوحدات سبق وعشن في الدير ببناء غرفهن من أموالهن الخاصة ثم وقفنها بعد وفاتهن على الدير. تقع هذه الغرف في الجهة الشمالية وهي مبنية على الصخر. أما في الجهة الجنوبية فتقع كنيسة الدير وهي حديثة وجميلة ولعلها تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي.
أما الأبنية الحديثة التي يستأجرها المصطافون صيفاً وتدر ريعاً للدير يستعمل في أعمال الترميم والتحسين فقد بنيت من الناحيتين الجنوبية والغربية.
في الدير حالياً نواة مدرسة داخلية لليتيمات أنشأتها رئيسة الدير الحالية الأم بيلاجيا السياف ومن المأمول توسيعها مستقبلاً بالإضافة إلى إحداثها لمشغل تمارس فيه المتوحدات والتلميذات أعمال التطريز والخرز والفنون النسوية. وقد قامت بإجراء تعديلات على أنظمة إيجار أبنية الدير بغية زيادة الريعية للقيام بالإصلاحات والإحداثات الجديدة في الدير.
يقود الدير حالياً، بهمة الأم الرئيسة وآباء البلدة، حركة رعائية وشبابية ناشطة في البلدة وفق توجيهات غبطة مولانا البطريرك أغناطيوس الرابع.
تحتفل الكنيسة بتذكار القديسة تقلا اولى الشهيدات في الرابع والعشرون من شهر أيلول.