حياة المكرم الأب بشارة أبو مراد
عائلته:
ولد سليم جبور أبو مراد في زحلة سنة 1953، والده من أسرة متوسطة الحال، عُرِف بسمعته الطيبة وإستقامته. أمّا والدته اليصابات بطرس القش فقد إمتازت بتقواها وعقلها الراجح وعنايتها بتربية أولادها الخمسة ( مراد ، سعدى ، سليم ( بسارة) ، مريم وسليمان ) . كانت العائلة تسكن في بيت لها بجوار كنيسة مار الياس المخلصيّة وقد أعطت عائلتا الأب والأم الكنيسة ولا سيما الرهبانية المخلصية مطرانًا وهو المطران بولس أبو مراد وكهنة كثيرين كانت لأمثلتهم البذار الأول في دعوة الأب بشارة إلى الكهنوت والرسالة والقداسة السامية، في هذه البيئة وبتأثير هكذا عائلة ، ولِدَ الاب بشارة.
فترة الصبا
على مثال الطفل يسوع ، كان الصغير سليم ( الأب بشارة) ” ينمو في الحكمة والنعمة والقامة أمام الله وأمام الناس” متأثرًا بأمّه مشبّعًا من تعاليمها ، فظهر فيه مع صغر سنّه ميل قويّ إلى الصلاة وحنين إلى الصمت والاختلاء. وهذا ما شهدت به شقيقته سعدى بقولها ” كان في السابعة من عمره عندما دخل مدرسة كنيسة مار الياس المخلصية، ومنذ أيام دراسته الأولى كسب محبّة معلميه ورفاقه، إذ بدت عليه دلائل الحشمة والتعقّل والرزانة. لم يكن أحد يجرؤ في حضرته على حديث لا يرضاه. تجنّب اللعب الخشن وقد اعتاد استغفال رفاقه في الملعب لينفرد في الكنيسة . تفوّق على أترابه في صفّه وأخذ يستوعب ما يلقى عليه من الدروس. كما برع في بادئ اللغتين الفرنسية والعربية، تعلم غيبًا مختصر التعليم المسيحي ولا شكّ بأن تقوى وغيرة معلّمه الشماس ديمتريوس قزع المخلّصي، قد تركا في نفس الفتى سليم تأثيرًا بالغ. انتقل إلى مدرسة دار المطران في زحلة، فأحاطه الأب بطرس الجريجيري بمحبة كبيرة لتقواه ونضوجه، وأخذ يسطحبه في زيارته الراعوية ويتشاركان في الصلوات والأعمال التقوية مما ساعد في توضيح صورة الكاهن القديس في نفس الفتى ومن استصغار الدنيا وجنون الشباب.
إلى دير المخلّص
عزم الفتى سليم ( الاب بشارة) البالغ العشرين من العمر على التكرس الكامل الله عبر دخوله الدير ، بعدما نضجت لديه نعمة الله ، بتأثير من مناخ البيت وجو المدرسة، وتوفرت لها استعدادات الرضى والطاعة بداخله. طرح الموضوع على والدته لتكون همزة الوصل بينه وبين والده لكن لم يلقَ موافقة والده، إلاّ أنّ وساطة أمّه الملحّة أقنعت والده فأذن له أن يعمل ما يشاء، تهللت نفسه فرحًا وتوجه الى الدير في ١ أيلول ١٨٧٤. طبعًا إن سليم لم يكن غريبًا عن دير المخلص لأنه تربّى تحت نظرهم في مدرسة الحارة وله أقارب منهم. ودّع أهله وركِبَ الجحش طالبًا الدير ، شوقه اليه كان يسبقه بمسافات. لدى وصوله سار حالاً الى الكنيسة، فراعته زينتها وجمالها: المعبد الخاشع يتلألأ بأنوار الشموع, يعبق بالبخّور, تتردّد في حناياه الترانيم البيزنطيّة الفخمة: إنّه احتفاءُ الرهبانِ الأفاضل برئيسهم العام الجديد, الأب سمعان نصر.
وأنس بجو الاحتفالات التي شهدها فيها فكانت الليلة الأولى له في الدير غير الليالي التي عاشها كأنها حلم لا ينتهي. وما زاده بهجتًا وشرورًا هو زيارة البطريرك يوسف سيور ليحتفل بعيد ميلاد العذراء وأيضًا وجود البطريرك اكليمنضوس بحوث الشهير بتقواه واماتاته الذي استقال من كرسيّه, ليقيم في الدّير راهباً متزهّدًا مصليًا. وقضى سليم في هذا الجو أعذب أوقات الصمت والصلوات.
النذور الرهبانية والكهنوت
في نهاية السنة الأولى من الابتداء” رميت القرعة بالاقتراع السرّي” للأخ بشارة ورفاقه ، فكانت حصيلتها قمحات نظيفة لا شعير فيها للأخ بشارة، فأبرز نذوره في ٢٤ ايلول ١٨٧٦ وأكمل دراسته اللاهوتية في مدرسة دير المخلّص ، فكانت هذه الدروس تزيده تعرفا الى الله. وبأمر الطاعة ، قَبِلَ السيامة الانجيلية في ٢٦ اذار ١٨٨٢. لقد كان عميق الاقتناع بأنه غير مستحق لدرجات الكهنوت فتملّكته رهبة غريبة عندما فوتح بأمرها، لأنه كان يهاب جدًّا دينونة الكاهن ، فكان يصرخ :” إنه لا يستطيع أن يقوم كما ينبغي بما توجبه على صاحبه من القداسة” مبررًا بقوله :” أنا ما جئت إلى الرهبانية إلاّ لأخلص نفسي لا لأرتسم” . لكن قبل الرسامة حُمل إليه أدمى قلبه حزنًا، وهو وفاة أخيه البكر مراد. وبصبروجلد ، حمل صليبه مفضلاً الصلاة في الدير لراحة نفسه ، على المغادرة إلى زحلة تلبية لدعوة والديه. وقد اتّخذ رؤساؤه هذا الوضع فرصة مؤاتية فأعادوا الكرة عليه بقبول الرسامة ليقيم الذبيحة من أجل راحة نفس أخيه، وبعد جهد ، حُدِدّ ٢٦ كانون الأول ١٨٨٣ موعدًا للرسامة فكان يومًا عظيمًا بخشوعه ومعانيه.
كاهن أم ملاك
في رسالة دوّنها أحد رفاقه القدامى وفيها هذه الشهادة الحيّة ، “عقب سيامته شرع بتقديم الذبيحة الالهية ، فكنّا نراه كملاك سماوي صامدًا أمام الهيكل رافعًا يديه ، شاخصًا إلى السماء يناجس من هو موضوع حبّه. وعندما كنّا نتناول من يده القربان ، كنّا نشعر ينفوسنا كأننا لسنا من الأرض لفرط الخشوع الذي كان يمازجنا “.
وشاء الله الذي يسم الأبرار بوسم ابنه ، أن يطبع بختم صليب آخر أولى سنوات الأب بشارة الكهنوتية ، فتوفيت والدته بعد الأم مبرحة، فبكاها بكاءً شديدًا وقد بعث برسالة إلى والده يقول ” الصبر يا سيدي على ما افتقَدكُم به الباري ليزيد ثوابكم ، لأن التجارب هي علامة المختارين فامل ألا تعطوا الطبيعة هواها، فكونوا قدوة للغير بالصبر والتسليم لمشيئة الله”. ومن أسمى أعمال الغيرة على النفوس الذي تميّز به كهنوت الأب بشارة هو سماع الإعترافات، فكان يقضي نهاره في كرسي الاعتراف.
رسول دير القمر ووديانها
تعرّف المطران باسيليوس حجّار أمطران صيدا ودير القمر على الأب بشارة ابو مراد ، أثناء تردّده على هذا الدير الذي هو مهد الطائفة فتعرّف على أعماله وأحواله وسيرته في المدرسة، ورأى فيه كاهنًا ممتازًا، فأراد أن سضمّه الى طغمة معاونيه ، وبعد الحاح وتشديد من المطران حجّار استدعته الطاعة المقدّسة سنة 1891 الى خدمة النفوس في دير القمر وجوارها، فلازمها طيلة اثنتين وثلاثين سنة متتالية لتشمل غيرته عشرين قرية. طيلة خدمته كان للصغار النصيب الأوفر من غيرته بتلقينهم القراءة العربية والفرنسية والتعليم المسيحي ، وبعض الصلوات.
وبوضع أسس المعرفة الصحيحة في نفوس من جعلهم المخلص مثال الكمال للكبار. كان ينطلق الى رعاياه ليلاً يسير حافيًا بغية قهلر الذات، لا يصدّه قيظ ولا صقيع ولا أمطار . كان يمضي في كرسي الإعتراف أكثر من عشر ساعات متواصلة. لم يكن يجمع صينية في قدّاسه ولا يقبض حسنة لخدماته ومع ذلك فقد بنى كنيسة ومدرسة لتعليم الصغار . اعتاد الصوم إلى الظهر ، وكثيرًا ما كان يأكل وجبة طعام واحدة طول النهار بغية إطعام الجائع. هذه الأمور هدّت جسمه الضعيف فاقتضى نقله إلى مكان آخر تكون فيه الخدمة الراعوية أدنى مشقة.
رجل صلاة
ذِكر الأب بشارة في قلوب المتقدمين من أبناء رعايا وادي دير القمر محفوفة بهالة من الإجلال والقداسة . إنه القديس في نظرهم، لا يعرفونه إلا منبسط الذراعين للصلاة، ويسمعون تنهداته وقرع صدره في الكنيسة وفي بيوتهم وحتى في تنقلاته بين القرى كان الأب بشارة لا يهدأ عن التفتيش عن أبناء رعيّته أينما كانوا ، ومن أيّة طائفة كانوا. يسمع بخبر مريض فيسرع إلى عيادته، مشدّدَل عزيمته. يسمع بخلاف في قرية فيبادر إلى ازالة الخلاف وجمع الشمل وزرع الألفة وربط الجميع برباط المحبّة والوخدة، مريدَا أن يخيّم سلام المسيح الحقيقي على النفوس كلّها.
كان همّه الأكبر أن يربط الجميع بعلاقة بنويّة صحيحة ومتينة مع الله، ويصالح الجميع معه . لم يعظ الأب بشارة بالكلام الفصيخ الرنان، ولا أعلن في الجرائد عن أعماله. كان الرجل الصامت، الذي يعمل في الخفاء فيجترخ العجائب في كلّ أنواعها. يقضي يومه بالصلاة ، ويصوم ويتقشّف حتى في الليل ، في الكنيسة أو في البيوت أو في غرفته المتواضعة أو على الطرقات كان يصلّي . ويروي الياس ابو رجيلي مرافقه في بعض التنقلات في الطرق الوعرة أن الأب بشارة كان طوال الطريق يردد المسبحة حتى أعيا التعب الياس وكاد ينقطع نفسه من كثرة ما ردد ” أعطنا خبزنا كفاف يومنا..” و ” يا قديسة مريم..” ليبادر الأب بشارة متسائل عن السبب” أولا تحب الصلاة، يا ابني؟ ويقول له الياس مازحًا :” بلى ولكني أصلي بقلبي” – وماذا تصلّي؟ – ” أصلي إلى الله ليقطع لسانك ختى تستريخ وتريحني من الصلاة ، فقد زحت الله وزحتني بكثرة صلاتك…”
وحده خوري:
شعت فضيلة الأب بشارة في ربوع الجبل الأسم، من دير القمر إلى شاطئ البحر غربًا. فحيث كان يطوف يعطّر الجوّ بفوح فضيلته وبخور صلواته، حتى إنه اكتسب إكرام وإجلال غير المسيحيين أيضًا. ويروي المرحوم مرعي المكاري إن سكان بلدة كفرحيم الدروز كانوا ” يقطعون له الطريق” ويتسارعون بشوق إلى لثم يده كلما مرَّ بين بيوتهم في طريقه إلى رعيته سرجبال. ويرددون على مسمعه ” أن الأب بشارة وحده خوري” لأنهم يشاهدونه خاشع النظر، قلنوسته على رأسه وجبّته بكميها الطويلين تخلع عليه وقارًا خاصًا وفي يمينه تلازمه مسبحة مهما طالت الطريق.
فكانت حياته حقًّا ” أنشودة متواصلة بمجد الله والعذراء مريم. وتشهد السيدة مريم عواد العشيّة في أنطوش مار الياس أنه لم يكن يقام اجتماع صلاة لإحدى الأخويات العديدة في دير القمر، إلاّ ويكون الأب بشارة أول المسارعين إلى الكنيسة للاشتراك به . سنة 1902 أسس الأب بشارة أخوية خيريّة، كان هو رئيسها ومدير أعمالها والجابي لأموالها والموزّع لها. وكل هذه المؤسسات كانت تضّم من يريد من سكان دير القمر، دون تمييز بين الطوائف والطبقات، وكلّها كانت تهدف إلى إحياء الروخ المسيحيّة ومساعدة الفقراء والمحتاجين ، كلّ الشهود أجمعوا على أنّ الأب بشارة كان مرشدًا لهذه الجمعيات ، فهو رجل الله الذي يحبّ الجميع، هو الكاهن الذي تعلّق به الجميع لقداسة سيرته ونزاهة قصده، وإخلاصه في الخدمة .
الله بيعين يا ابني
للشاهد الأكبر لأعمال الأب بشارة المعلّم ملحم أبو رجيلي وصف رائع لإماتات ” الخوري القديس” . يروي المعلّم ملحم ” دعاني ليلة أحد أيام الصيام، الى مرافقته إلى بقعون ، وهي مزرعة تبعد مسافة ساعتين عن الوادي وأكثرها صعودًا. لكي يقدّس ويسمع إعترافات الناس. طيلة الطريق كان يطلب اليّ المناوبة معه في تلاوة الصلاة. أمّا أنا فقد تعبت ، فقلت له ” أنا تعبان” فأجابني :” الله بيعينك يا ابني، هيك الدنيا بدها كي نخلّص نفسنا وننجو من الشيطان! لا يمكننا أن نعيش بدون صلاة” . وصلنا إلى بقعون فلاقاه الأولاد بأهازيج الفرح وأخذ يفرّق عليهم الملبس كحسب عادته، وجلس ليسمع إعترافات السكان إلى ساعة متأخرة من الليل ولم يتناول إلا كأسًا من الحليب. وبتنا ليلتنا عند أناس من القرية ليتابع أعماله الراعوية للمزارع المجاورة وعندما عدنا من الجولة وودعته رأيت ركبتيه واهيتين ، فقلت له :” لم هذا يا ابانا؟ ثلاثة أيام وأنت لا تأكل؟ فأجاب :” الله بيعين” وأكمل طريقه يردد صلواته.
خقًا قال كثيرون أنّ الأب بشارة هو ناسك ورسول . السلاح الأقوى الذي حارب به الشيطان كان الصلاة، ثم اللطف الجمّ والغيرة الوقّادة. وهكذا قليلاً فقليلاً أخذت النفوس ترتشف بلهفة وشوق إرشاداته وعظاته فتعود الى حضن الكنيسة. والتفّ الجميع، كبارًا وصغارًا حول خوريهم الاب بشارة ، وقد أُخذوا بما كانوا يرونه فيه : رجل صلاة، ورجل الإماتة، والراعي الغيور الذي يبذل نفسه في سبيل رعيته.
الاب بشارة : الراعي الغيور
منذ أن تسلّم رعية وادي الدير ، أخذ على عاتقه مسؤولية النفوس بكل ما يوحيه الضمير الكهنوتي من إخلاص وغيرة. فكان يتهيأ لكل إرسالية أحد أو عيد بصلوات حارّة ، يبدأها منتصف الليل ويتابعها طيلة الطريق ، في كنف الظلام، حتى يبلغ قرى الوادي بعد سير ساعة ونصف . وكم تعب وبذل في بادئ الامر ، لينعش التقوى ويوحّد بين القلوب ، ويردّ الضالين إلى الكنيسة. فكان يزور كل بيت بمفرده، ويتكلّم الى سكانه من فيض عاطفة قلبه، حتى أثر كثيرًا مثل هذا الكاهن وتواضعه ولطفه. وإذا بالنفوس تؤخذ لما تسمع وما ترى. وامتدّ عمل الاب بشارة وشاعت أخبار غيرته.
فكانت الجموع من القرى والمزارع المجاورة تتوافد بأعداد غفيرة لتستمع الى قداسته ووعظه وتعترف عند بخطاياها . وقد حُرمت نعمة الكاهن اذ لم يكن سواه خادم للنفوس في تلك المنطقة الواسعة؟وصف الاب قسطنطين باشا يومًا من أيام الأب بشارة راعي النفوس في دير القمر ، قال :” كان وصولي إلى دير القمر ظهر الثالث عشر من ايلول. على مائدة الطعام جلس الأب بشارة يأكل معنا. لكنّه ما لبث أن قام وذهب الى زيارة القربان المقدّس ، فلحقت به. واذا به يناجي الرّب لمدّة ساعة كاملة ثم قام لتنظيف الكنيسة وتزيينها استعدادًا للاحتفال بعيد الصليب المقدّس. فطلبت منه أن يسمع اعترافي وما انتهيت ختى تدفّق الناس للاعتراف عند الأب بشارة . ولبثوا على هذا المنوال أي من الساعة الثالثة بعد الظهر الى الرابعة ليلاً، أي ثلاث عشرة ساعة، والأب بشارة محاصر في كرسي الاعتراف لا يخرج من الكنيسة لتناول العشاء ولشرب كأس ماء وأخذ بعض الراحة. إنّ غرفته الحقيقيّة يقول الأب باشا كانت كرسيّ الاعتراف.
هل بالإمكان أن أترككم بدون قدّاس
بدأ الأب بشارة بإقامة القدّاس الإلهي في أحد منازل الوادي ، ولم يكن فيها ولا بالجوار كنيسة. كان يقصد القرى كل أحد وعيد ، وكلّ مرة لمساعدة مريض ، لا يمنعه حرّ ولا برد ولا سيول وأمطار . فيذكر سكان المنطقة ، أنهم لاقوه مرّات كثيرة تحت وابل من الأمطار . حاملين السلالم ، ليساعدوه في قطع ساقية ” الباردة” الجارفة. لا سيما بعد أن رأو تيارها يحمله مرة ويقذف به إلى مسافة بعيدة . ولم ينجُ إلاّ بعناية المخلّص/ إذ تشبث بغصن شجرة عائم على وجه الماء . ومنذ ذلك الوقت أخذ السكان يتهيأون لملااته ومرات حمله على الأكتاف لنقله من ضّة الى ضفّة. ويذكر الجميع أنه كان أحيانًا يقيم القدّاس والمياه تتسرب بشدة من ثيابه، وذلك لإضطراره أن يقدّس في قرية ثانية . وعندما كانوا يبدون تعجّبهم من مجيئه تحت المطر يجيبهم ” أين المطر والبرد يا أبنائي؟” هل بالإمكان أن أترككم دون قدّاس . حقُّا إن النفوس مسؤولية!
معجزة سيدة البشارة
عمّت شهرة الأب بشارة كافة نواحي المنطقة. فغدا أي منزل من منازل هؤلاء المزارعين ضيّقًا جدًّا لأن يستوعب الرعية التي تضاعفت بمن كان يقصدها من القرى المجاورة . وهبّ الأب بشارة يبذل الجهود والمساعي ، بهمّة الاتكال ، لبناء كنيسة لرعيته . فكلّ مرّة يجتمع الشعب للصلاة كان يردّد طالبًا بناء كنيسة ومدرسة في وادي الدير . لكنّ أين المال لهذا العمل؟ والأب بشارة كاهن راهب لا يملك مالاً ولا يرتبط بعلاقات مع عظماء ! فاتح الاب بشارة مع وفد من أهالي وادي الدير المطران باسيلوس حجّار الذي كان يقضي ، كعادة أساقفة صيدا أيام الصيف في دير القمر.
تقبّل راعي الأبرشية طلب الاب بشارة برضى فهو يحبّه ويقدّر عمله الرسولي ، ويرغب بمساعدته وحالاً حرّر له رسالة إلى محسن مشهور في بيروت هو الشيخ بشارة الخوري طالبًا منه أن يساعد الأب بشارة في مشروع بناء كنيسة في وادي الدير . تأثر كثيرًا الشيخ بشارة الخوري لدى سماع الشرح الوافي من الأب بشارة . فكلام القديسين يؤثر في القلوب وينفذ إلى الأعماق ويحملها لتتجاوب مع طلبات السائلين . وحالاً نبرّع بخمس وعشرين ليرة ذهبية كمساعدة أولى لبناء الكنيسة ، تقبّل الأب بشارة العطية ، ووعد المحسن أنه سيبني كنيسة تحمل اسم ” البشارة” عرفانًا بجميله وإقرارًا بفضله .حمل الأب بشارة الخبر إلى الأهالي ففرحوا كثيرًا وتحمّسوا للمباشرة في العمل ، فكلّ سكان وادي الدير ، النساء والرجال ، عملوا معًا وبحماس وبغيرة لبناء كنيستهم ومدرستهم وإذا بالكنيسة ترتفع جميلة، واسعة، وتقوم الى جانبها مدرسة صغيرة لتعليم الصغار والأحداث .
كنيسة المنطقة كلّها
من يصف فرح الأب بشارة عندما انتهى بناء الكنيسة و المدرسة ، فهوذا قد قام بيت الله ، وبيت للشعب المسيحي . وهذا إنجاز سعى به الأب بشارة ليجمع الشعب المسيحي ويسير به شطر الله عزّ وجلّ، بواسطة مساهمته لتعزيز الصلاة ونشر التعليم الديني. فأصبحت كنيسة سيدة البشارة كنيسة المنطقة كلّها ، فارتاح لها قلب الراعي، وأمسى يغدو اليها باكرًا على ما يشتهي، ويروي شيوخ الرعية انهم أخذوا يستفقون على قرع الجرس الخاشع. فيسرعون ليقفوا مشدوهين أمام مشهد اخّاذ: خوريهم القديس مشبوح اليدين جاثيًا على درجة الهيكل غائبًا في مناجاة صامتة، يقطعها من حين لآخر زفرات تتصاعد من قلبه الملتهب حبًا فيكتفون بالتحديق إليه. فينهض ليهتم يترتب الكنيسة وإعداد الهيكل للقدّاس . ثم ينصرف لسماع الاعترافات. وكم كان يشهد المعلم ملحم ابو رجيلي ” أبناء المنطقة لم يعرفوا سواه مرشدًا لذمتهم”.
كان ملحًا في اجتذاب النفوس إلى سماع القداس فيقصدهم فردًا فردًا في بيوتهم ويتبعهم الى أشغالهم في الحقل والبيدر. وعندما كانوا يدّعون ” قصر يدهم وحاجتهم” ويستشهدون” اشتغل نهار الأحد والعيد ولا تحتاج أخاك السعيد ” كان يعطي امثال هؤلاء أجرة نهار كامل ليحضوا القداس. ويعطي سرًّا ثمن ثياب جديدة ليأتوا إلى الكنيسة باطمئنن وبنوع لائق.
أمنا العذراء بتحبّنا شفقة لنا
يروي لنا رفيق الأب بشارة المعلم ملحم ابو رجيلي : في الأيام الأخيرة لخدمة الأب بشارة في الوادي، كنت قد اعتدت الاحتفاظ بمفتاح الكنيسة ، آخذه معي إلى منزلي في بنويتي. وصباح كلّ أحد أو عيد، أغدو باكرًا ، بعد نصف الليل بثلاث ساعات، لأسبق الأب بشارة وأفتح الكنيسة. وكثيرًا ما كنت أجده قد وصل قبلي، وراح يتمشى بالرواق الذي زاده إلى جهة الكنيسة الشمالية وسقف القرميد، يصلّي مسبحته بانتظار وصولي. في إحدى الليالي غدوت كالعادة، وبعد لثم يمينه ضربت يدي على جيبي لأسحب المفتاح فلم أجده. لقد نسيته. فلاحظ رحمه الله ارتباكي وحزر ما اصابني، فأقبل يربت على كتفي ويردد ” إن شاءالله تتبارك يا ابني” كم مرّة نبّهتك إلى وجوب ترك المفتاح عند جيران الكنيسة، ولك لا بأس. فعرضت عليه العودة الى بنويتي لأجلب المفتاح فرفض.
ثم رأيت الأب بشارة يعود فيزرع الرواق ذهابًا وإيابًا يتلو سبحته ثم يضع يده على باب الكنيسة ومن جديد يصلّي ثم يضع يده على الباب ، في المرّة الثالثة قبل أن تصل يده الى الباب ، انفتح الباب له من ذاته. وذلك امام عيني. فنهاني عن القول وقال :” أمنا العذراء بتحبّنا، شفقت علينا”. حقًّا إن كل ما تطلبونه بالصلاة تجدونه.
الله يرحمه
كان الأب بشارة إذا بلغه خطورة أحد المرضى، لا يهدأ له بال حتى ليقطع الطريق راكضًا . كما جرى له حين اشتد المرض الأخير على المرحوم عبد الله خليل ابي رجيلي. وأخذ في النزاع ، فارسل أسعد سمعان على جناح السرعة ليأتي بالأب بشارة من دير القمر، فما إن سمع الخبر هذا الأخير حتى هبّ للحال. وراح يعدو راكضًا على الطريق المتعرّجة بين الحقول والصخور. بحيث تعذر الشاب اسعد اللحاق به. كما يروي هو نفسه.
وعندما قاربا مكانًا يدعى نبع الأخوت على بعد ربع ساعة من قرية وادي الدير ، إذا بالأب بشارة يقف فجأة، ويرسل من صدره زفرة :” مسكين ابو سعيد! إنما لم يمضِ زمان قد أتممت له واجباته. فالله يرحمه.” لم يفهم اسعد مغزى كلام الكاهن، لا سيما وأنه لم يطرق سمعه قرع أجراس الحزن. وتابعا الطريق فوجدا المدنف قد فارق الحياة ، فاستفهم اسعد عن زمان موته، فقيل له : من ربع ساعة ففطن عندئذٍ لكلام الأب بشارة ن وعلِمَ أنه مات في حين كان الأب بشارة يقول :” الله يرحمه”. حياة الأب بشارة ملأى بالجهاد الرسولي وثمار البر والفضيلة. أعطت لذلك الوادي خصب الإيمان وروعة القداسة فدعي بحقّ وادي القداسة لأنه يتجوّل في حنياه كاهن قديس.
الأب بشرة خلال الحرب العالمية الأولى
يحكي الناس قصصًا كثيرة عن أعمال الأب بشارة أبي مراد في الحرب الكبرى. كان يجمع الحسنات ويوزّعها على المحتاجين، ويجمع الطعام من بيوت الأغنياء ويطعم بها الجائعين، وكان يقتصد في أكله ويوفّر في لباسه حتى يعطي من هم في حاجة إلى المساعدة . كانت تلك الأيام قاسية على الشعب ، إنّما كانت محبّة الأب بشارة واسعة . فلم يكن يستطيع أن يرى البؤس والجوع والفقر مستحوذًا على كثيرين وهو لا يقوم بأي عمل لخدمته. إنّ الصورة التي انطبعت في اذهان الناس عن الأب بشارة أبي مراد في أيام الحرب العالمية الأولى هي صورة بهيّة الألوان ، فكثيرون رأوا الأب بشارة يتجوّل في الظلام الدامس ، حاملاُ كيسًا يحوي بعض الثياب والقوت وراه آخرون شاحب اللون ، لا يأكل حتى يطعم الجائعين، تلك هي الصورة التي علقت في أذهان سكان دير القمر والودايا، وكانت هذه شهادة على أنّ الله هو إله أحياء، يظهر في رجال أبرار وصالحين جعلوا محبّة الإنسان نهجًا تبعوه، وبذلك دعوا البشر أجمعين إلى الارتباط بالله والتعلّق بهلانه محبّة .
وطالت الحرب وطالت ويلاتها وكثرت صعوباتها والأب بشارة يعطي ويبذل ويوزّع بدون كلل ودون ملل. والعجيب أنه لم تنقطع عنه يومًا المساعدات التي كان يوزّعها، فقد طلب والحّ الطلب ، والرب استجاب لسؤاله ، فكانت ينابيع الإحسان تتدفّق عليه دون نضوب، لأنه كان يصلّي ويتضرّع ويصوم ، والله لا يخيّب أمل المختارين.
الانتقال إلى صيدا
منذ أنّ تعرّف راعي أبرشية صيدا ودير القمر المطران أثناسيوس خرياطي على الأب بشارة ، رأى فيه كاهنًا ممتازًا قريبًا إلى الله يستطيع أن يعمل خيرًا كبيرًا للنفوس في صيدا كما عمل في دير القمر والودايا . فقرر نقل الأب بشارة إلى صيدا ، ليريحه في خدمة أسهل اذ كان قد تقدّم في السنّ ، وهزُلَ كثيرًا بسبب التقشّف والصوم والتعب الكبير والتجوّل في الطرق عبر الوديان والسفوح ولأن مناخ الساحل يتوافق مع حالته الصحيّة وبالتالي فإنّ هذه المدينة كبرت جدًا، وكثرت مرافقها، وازدهرت تجارتها وازداد عدد سكانها بعد الحرب الكبرى وهي بحاجة إلى كاهن نشيط وغيور .
فتالّفت اللوائح ، وتوالت الوفود من كل الرعايا ، وجميعهم يطالبون بإبقاء خوريهم لهم. وأنهم راضون به ” على علاّته” بأمراضه وهزاله وشيخوخته. فمدّدت إقامته سنة واحدة، استجابةً لرغباتهم. ولكنّ الضرورة الملحّة قضت أخيرًا ، بنقله. فاصطحبه المطران معه في 4 كانون الأول سنة 1922 إلى صيدا. وأطلق له الامر بسماع الاعترافات. كانت شهرة تقوى الأب بشارة وإرشاداته في اعترافاته، قد سبقته إلى صيدا وجعلت الجميع في شوق إلى طلّته . وعاد حصاره في كرسي الاعتراف، ولا سيما وأن شهري كانون وما يليها من أيام الصوم والرياضات الروحية والفصح المجيد ، كلّها مواسم دينية مزدهرة بإقبال المؤمنين.
الكاهن رجل مأكول
هذا التعبير الظريف للكاهن شافرييه، ينطبق على الأب بشارة الذي لم يكن يحتفظ لذاته بشيء من الراحة أو التفسيح عن النفس ، فهو ” خادم الرعية” . والجميع يذكرون بتأثّر عميق عن الكاهن الذي كان يظلّ في الكنيسة ( كاتدرائية القديس نيقولاوس في صيدا ) ليلاً نهارًا ، لا يفارقها إلاّ لضرورة ما ، ويقيم في غرفة قائمة لا تزال إلى جانب الكنيسة ، حرصًا منه ، كما كان يقول ، على قنديل القربان لكي لا ينطفىء . كان عليه أن يسمع الاعتراف في المدارس والكنائس واستقبال كل من يقصده. وعليه أن يمنح الأسرار لكل من يفِد إليه من مؤمني صيدا والجوار، كما كان يتفقد جميع العائلات المنتشرة في اليساتين وضواحي صيدا.
ويخصّ المرضى بعناية دائبة ، فيتردد عليهم ناقلاً إليهم الغذاء السماوي ، فيسمع اعترافهم ويحمل معهم أوجاعهم، ويلازم سرير المنازعين ، ليهيء لهم ميتة صالحة. ويفتّش عن الخراف الضالة في البيوت، وحتى في الطرقات ، ليريح ضميرهم وضميره. تفانٍ مدهش جعله لا يعي وضعه الصحي الخطير ، حتى غلبه المرض ولم يعد في استطاعته السير الى زيارة المرضى ، ولا حتى الوقوف لإقامة القدّاس والانتقال الى الكنيسة ن فاقتضى ملازمة الفراش وسط آلام مبرحة.
عودته إلى دير المخلص
كان الأب بشارة قد تعب من المسيرة الطويلة الشاقة ، وحتى في صيدا بقي يعاني من الأمراض في القلب ويشعر بالضعف. ومنذ اربعين سنة تقريبًا ترك الدير الأمّ وانطلق الى العالم الفسيح وراء خراف المسيح التي وكل إليه الاهتمام بها والعناية بخلاصها. بتاريخ 26 شباط 1927 عاد الأب بشارة إلى دير المخلص الذي كان قد فارقه شابًا قوي البنية ، ورجع إليه الآن شيخًا نهكته الأتعاب والأصوام ، وعقدت السنون فوق هامته إكليلاً من بياض الشعر والفضيلة. عند عودته ، استقبله سكان الدير بالتجلّة والاحترام ، فإنّ رجلاً قديسًا وفد اليهم واعتبروه بركة ونعمة لأنهم شعروا بالاطمئنان وأحسّوا بالسلام يغمر قلوبهم .
ورغم أمراضه وتقدّمه في السنّ ما لبث أن عاد يقتطع من اللقمة البسيطة المقدّمة له. إنّ سعيرًا لا ينطفئ كان يلهب قلبه، وصوتًا لا يصمت كان يلحّ عليه بالنداء لطلب المزيد من التحرر من الأرض . وظلّ العذاب يلاحقه وتكاثرت نوبات القلب التي بدأت تنتابه وهو في صيدا ، وخفّ نظره وثقلت مشيته، وقليلاً قليلاً أخد الأب بشارة يلازم غرفته وسريره، ولم يعد باستطاعته اقامة القداس والاشتراك بالصلوات مع جمهور الرهبان . وطيلة هذه الفترة لم يتركه الرهبان والكهنة ساعة واحدة ، أحدهم كان يصلّي له صلاة الفرضيّة ، وآخر يأتيه بالمناولة . هذا يتلو له القوانين الخشوعيّة ، وذاك يرنّم له بعض الترانيم الطقسية مثل ” إني أشاهد خدرك” و ” خلّصي عبيدكِ من الشدائد” وغيرها ، والاب بشارة يسعد ويفرح عند رؤية اخوته يساعدونه في في هذا الوقت العصيب الذي تراكمت عليه الأمراض . إن السنبن الأخيرة من حياة الأب بشارة كانت سنيّ عذاب لكن الابتسامة لم تفارق وجهه والكلمة الحلوة لم تتقطّع عن لسانه وكذلك الصلاة والابتهال والدعاء كانت ترافق دقائق حياته .
مجد في الموت ومجد بعده
أتت ساعة الأجل المشتهاة، فالأب بشارة لا يخاف من الموت. تكاثرت نوبات القلب عليه وهزل جسمه جدًا وبدأ يشعر أن الموت بدأ يتسرّب الى داخله. ثم وفَدَ راعي أبرشية صيدا ودير القمر ، وحضر الأب العام إلى الرهبانية المخلصية الارشمندريت أغابيوس نعّوم ابو رجيلي ليشرف على آخر ساعات حياة راهبٍ بار وفاضل. وفي 21/ شباط سنة 1930 بعد أن تناول الأب بشارة الزاد الأخير ضمّ هو نفسه يديه إلى صدره واستعدّ للموت وفارق الحياة في تمام الساعة السادسة والنصف من صباح الثاني والعشرين من شهر شباط سنة 1930 وله من العمر سبع وسبعون سنة. أخذت في دير المخلّص تدابير غير اعتيادية عند هذه الوفاة. فخُرق جدار الكنيسة الغربيّ، وفُتح قبر خاص، ثم وضِعَ جثمان الأب بشارة في تابوت خاصّ متقن الصنع ، يغطّي الزجاج نصفه.
ثم وضعت في التابوت بعض الوثائق التي تخصّ حياة الأب بشارة ورفاته لتكون مرجعًا عند الحاجة، فالشعور السائد في تلك الساعات كان أنّ الأب بشارة سيصبح يومًا ما في عداد القدّيسين الشرقيين ، وفي الكنيسة جمعاء. ثم حمل الكهنة النعش على الأكتاف وطافوا به في الكنيسة إلى أن وصلوا إلى القبر المبارك، فأودعوا في ذلك الكنز الثمين ، حيث ” يستريح على رجاء القيامة الأخيرة ، المثلث الرحمة الأب بشارة ابو مراد الراهب المخلّصي مثال الحياة الرهبانية العالية والكمال الكهنوتي السامي”. أقرّ الجميع بفضيل الأب بشارة ، وشهدوا بأن سيرته شابهت كثيرًا حياة القديسين المشهورين والنسّاك الزاهدين أمثال أنطونيوس وأفتيموس وسابا وشربل.
فهو لم يكن ساحرًا للجماهير بفصاحته، ولم يكن رجل علم وحكمة بشرية فقام بأعمال عظيمة . كان ذلك اليوم يومًا عظيمًا في تاريخ الرهبانية المخلصيّة. فقد انضمّ الأب بشارة أبو مراد الى صفوف رهبان وكهنة كثيرين سبقوه في ميدان الجهاد وتقدّسوا في الصوامع والاديار في سبيل المسيح. إُقفِل باب غرفة الأب بشارة في ممشى ” بولاد” لأنّ الجماهير زحفت إليها وأخذت تتهافت لأخذ الذخائر من ثيابه ن لتكون حرزًا وحصنًا يقي من المرض والخطر والوباء. والجميع كانوا يرددون بصوت واحد ” لقد عاش في ما بيننا قديس ورأينا مجد الله يتجلى في حياته وفي موته وبعد موته”.
نظرة في الأعماق
نسمّر النظر في هذا الراهب والكاهن الذي قضى حياته كلّها في التجرّد والمحبة والخدمة. ونتساءل ما هو سبب هذه السيرة التي هي بلا عيب، ولماذا البعد عن العالم والزهد بالراحة واللذة. إنّ سرّ هذه الحياة كلّها انما هو المسيح الحيّ في النفس ويعمل فيها دومًا. يحار كلّ من يأخذ في درس حياة القديسين إذ يشعر بالعجز. لدى التصميم على لمّ خيوطها وجمع كنوزها. فهي سفر حافل بأعمال وأخلاق وفضائل كثيرة ، يستحيل وصفها والإحاطة بكلّ مظاهرها . إن فضائل الأب بشارة نحصرها ضمن الإطار المخلصي . وهذا هو خط قداسة تميّزت به جمعية المخلّص منذ تاسيسها إلى اليوم. فإن من يدرس بإمعان ورويّة سير الرجال الأبرار الذين تعاقبت حلقاتهم دون انقطاع فيها، يتبيّن جليًّا ثلاث صفات امتازوا بها وهي الاخلاص وروح العبادة والتضحية. فهي تؤلف نوعًا ما روحًا خاصًا للرهبانية المخلصية، سرى في كلّ فرد من أفرادها وطبعه بطابعه.
وإننا لنلمح هذا التصميم مشعًا في الأب بشارة أبي مراد الذي هدف إلى تحقيق روح جمعيّته في حياته، والسير بموجبهن فأضحى مثالاً تجلّت فيه تقاليد الرهبانية المخلصية الروحية، ونعم الله العريزة في نفسه. لا نرى في حياة الأب بشارة تلكّوًا ولا هدنة ولا توقفًا. فمنذ اكتشف الله استمرّ في التحديق فيه وفي جماله وفي السير نحوه. لقد فهم أهمية الصلاة وشدّة ضرورتها لحياة النفس الداخلية، فراح يصلّي بلا انقطاع ، ودون ملل، متغلبًا على ما يشعر به كل إنسان من سأم ونكوص. فشهد له عارفوه من الكهنة والرهبان والعالميين أن صلاته لم تنقطع، لا في الكنيسة ولا خارجًا عنها، لا في الليل ولا في النهار.
وتاج العبادات هو التعبّد لمريم العذراء وتاج الصلاة هو الصلاة لها. فكان يتلو سبحة الوردية كل يوم، كما صرّح هو نفسه، و قانوني المديح والباركليسي الجميلين . إن الاماتة في حياة الاب بشارة تختصر حياته كلّها. فهي الصفة الممتازة المشعّة في كلّ فضائلها واحوالها وظروفها. فكان رجل الاماتة المتقشّف المتزهد في حمل الصليب كالنير ورضي بثقله المرهق. نصل الآن إلى نهاية المطاف في حياة الأب بشارة. وكان بالإمكان أن نستمرّ في الحديث وأن نستعرض امورًا لم ترد في هذه الحلقات. لكن نظنّ أن هذا النزر اليسير يكشف لنا سرّ الله الذي ظهر في الأب بشارة. هو سرذ الله العجيب في قديسيه . ويتمجّد الله في الأب بشارة أبي مراد الراهب المخلصي .
دعوى التطويب
يتحدّث الأب نضال الجبلي عن بطولة فضائل الأب بشارة أبو مراد. لافتا الى أنه “عندما أسلم روحه في العام 1930 قامت الرهبانية المخلصيّة بكتابة سيرة حياته وفضائله”. ويسهب الأب جبلي في الشرح لماذا لم تلاحق الرهبانيّة المخلصيّة دعوى تطويبه في الكرسي الرسولي بعد وفاته ليشير الى أن السبب هو اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الزلزال الذي ضرب جنوب لبنان فيما بعد”، ويوضح أن “دعوى التطويب فُتِحت في العام 1982 ووصلت الى الدوائر الفاتيكانية في العام 2006، ولو لم تبحث هذه الدوائر في بطولة فضائله لما أُعلن مُكَرَّمًّا(1)في العام 2010″، كاشفاً أن “إحدى العجائب حصلت مع إمرأة من عبرا وقد كانت مشلولة وبشفاعة الأب بشارة أبو مراد عادت لتمشي من جديد وقد قُدِّمت التحقيقات والوثائق الى الدوائر الفاتيكانية لمتابعتها وتحليل جميع المعلومات الواردة فيها، حيث من المتوقّع عند الانتهاء منها وتثبيتها أنْ يُعلن طوباويًّا. وبالطبع سيحتاج مسار التقديس بعد التطويب الى أعجوبة جديدة”.
ويبقى الانتظار حتى تقرّ أعجوبة امرأة عبرا ليعلن جراءها الأب بشارة أبو مراد طوباوياً(2)وعلى مسيرة القداسة(3)في وقت أشدّ ما يحتاج فيه لبنان الى شفاعته!
صلاة لنيل تطويب الأب بشارة
أيّها المخلص الكريم, يا من لا يزال يسكب غزير نعمه على كهنته, الذين هم ميراثه الخاص, لتقديسهم ولخير شعبه, ونطلب إليك ضارعين أن تتنازل فتمجّد خادمك الأمين الأب بشارة أبا مراد, الذي سار أمامك في الكمال الرهباني والكهنوتي, وعبدك بالبرّ جميع أيام حياته. أظهر فيه أيّها السيد قدرتك إن حسُن لديك, ليتلألأ كنجمٍ وضّاءٍ في سماء كنيستنا الشرقية الساطعة بأمجاد قديسيها. فيعلم الجميع أن ينبوع القداسة لا ينضُبُ في كنيستك المقدسة.
ارتضِ بأن تكلّل هام كاهنك الأمين بإكليل الطوباويين, لنقدر أن نتّخذه مثال الكمال, مقتدين بفضائله, فيتمجّد اسمك القدوس أيّها الآب والإبن والروح القدس. آمين.