التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية المقدسة
الفصل الأول (26-49)
عربه
عن الطبعة اللاتينية الأصلية
– المتروبوليت حبيب باشا
– المطران يوحنا منصور
– المطران كيرلس سليم بسترس
– الأب حنا الفاخوري
الفصل الأول:
الإنسان “قادر” على (الاتصال) بالله
26- عندما نعترف بإيماننا نبدأ بالقول : “أؤمن” أو “نؤمن”.فقبل أن نعرض إيمان الكنيسة كما يعترف به في قانون الإيمان، ويحتفل به في الليترجيا، ويعاش في العمل بالوصايا وفي الصلاة، فلنتساءل ما معنى “أؤمن”؟ الإيمان إجابة الإنسان لله الذي يكشف له عن ذاته ويهبها له، وهو في الوقت نفسه يؤتي الإنسان نورا فياضا في بحثه عن معنى الحياة الأخير. ونحن من ثم ننظر أولا في بحث الإنسان هذا (الفصل الأول)، ثم في الوحي الإلهي الذي يلاقي فيه الله الإنسان (الفصل الثاني)، وأخيرا في جواب الإيمان (الفصل الثالث).
1. تطلب الله
27- تطلب الله رغبة منقوشة في قلب الإنسان، لأن الإنسان خليقة من الله ولله؛ والله يجتذب الإنسان إليه اجتذابا متواصلا، والإنسان لن يجد الحقيقة والسعادة اللتين يسعى إليهما دائما إلا في الله :
” إن في دعوة الإنسان هذه إلى الاتصال بالله لأسمى مظهر من مظاهر الكرامة البشرية. ودعوة الله هذه التي يوجهها إلى الإنسان ليقيم معه حوارا تبدأ مع بدء الوجود البشري. ذلك أن الإنسان إذا وجد فإن الله خلقه بمحبة، وهو بمحبة منحه الكينونة على الدوام؛ والإنسان لا يحيا حياة كاملة بحسب الحق إلا إذا اعترف اعترافا حرا بهذه المحبة وسلم أمره لخالقه”.
28- عمد البشر، على مدى تاريخهم وإلى اليوم، إلى طرائق متعددة للتعبيرعن تطلبهم الله بعقائدهم وسلوكهم الديني (صلوات، ذبائح، عبادات وطقوس، تأملات، الخ.) وعلى ما قد يكون في هذه الطرائق التعبيرية من ملابسات، فإنها علامة إلى حد أننا نستطيع أن نسمي الإنسان كائنا متدينا :
إن الله “صنع من واحد كل أمة من البشر، ليسكنوا على وجه الأرض كلها، محددا (لهم) مدى الأزمنة وتخوم مساكنهم؛ لكي يطلبوا الله، لعلهم يجدونه متلمسين، مع أنه غير بعيد من كل واحد منا، إذ به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 26-28).
29- ولكن هذه “العلاقة الحميمة والحيوية التي تجمع بين الإنسان والله ” قد ينساها الإنسان ويتجاهلها أو قد يتوصل إلى رفضها رفضا صريحا. وقد يكون لمثل هذه المواقف أسباب شديدة التنوع : الثورة على الشر في العالم، الجهل أو اللااكثرات في الدين، هموم العالم وهموم الغنى، سلوك المؤمنين السيىء ، التيارات الفكرية المعادية للدين، وأخيرا هذا الموقف الذي يقفه الإنسان الخاطىء فيختبىء، خوفا، من أمام وجه الله، ويهرب من دعائه.
30- “الابتهاج لقلوب ملتمسي الله” (مز 105: 3). إذا كان بإمكان الإنسان أن ينسى الله أو يرفضه، فإن الله لا يفتأ يدعو كل إنسان إلى التماسه لكي يحيا ويبلغ السعادة. إلا أن هذا الالتماس يقتضي من الإنسان جهد عقله الكامل، واستقامة إرادته، و”قلبا مستقيما”، كما يقتضي أيضا شهادة الآخرين الذين يعلمونه كيف يلتمس الله.
“إنك عظيم يا رب، وأهل لأسمى مديح: عظيمة قدرتك وليس لحكمتك حد. والغنسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يدعي مدحك، هذا الإنسان ذاته، في تلبس حالة القابلة الموت، يحمل في ذاته شهادة آثمة، والشهادة على أنك تقاوم المتكبرين. مع ذلك كله، يريد الإنسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يريد أن يمدحك. أنت نفسك تحضه على ذلك، إذ تجعله يجد متعه في تسبيحك ، لأنك خلقتنا لك، ولأن قلبنا لا يجد الراحة إلا عندما يستقر فيك”.
2. المداخل إلى معرفة الله
31- الإنسان الذي خلق على صورة الله، ودعي إلى معرفة الله ومحبته، يجد عند التماسه الله بعض “السبل” للدخول في معرفة الله؛ وهي تدعي أيضا “شواهد على وجود الله”، لا بمعنى البراهين التي تطلبها العلوم الطبيعية، بل بمعنى “الأدلة المتلاقية والمقنعة” التي تتيح الوصول إلى حقائق ثابتة.
هذه “السبل” لمقاربة الله تنطلق من الخليقة : العالم المادي والشخص البشري.
32- العالم: انطلاقا من الحركة والصيرورة، من إمكان الحدوث، من نظام العالم وجماله، تصبح من الممكن معرفة الله مبدأ وغاية للكون.
القديس بولس يثبت في شأن الأمم: “ما قد يعرف عن الله واضح لهم، إذ ان الله (هو نفسه) قد أوضحه لهم. فإن صفاته غير المنظورة، ولا سيما قدرته الأزلية وألوهته، تبصر منذ خلق العالم، مدركه بمروءاته ” (رو 1: 19-20). والقديس اوغسطينوس يقول: “سائل جمال الأرض، سائل جمال البحر، سائل جمال الهواء الذي يتمدد وينتشر، سائل جمال السماء (…) سائل هذه الحقائق كلها. فتجيبك كلها: نحن جميلات. وجمالها اعتراف. هذه الجمالات القابلة التغير، هل صنعها إلا الجميل الذي لا يقبل التغير؟”.
33- الإنسان : مع انفتاح الإنسان على الحق والجمال، ومع تحسسه للخير الأدبي، وحريته وصوت ضميره، ومع توقه إلى ما لا ينتهي وإلى السعادة، فهو يتساءل عن وجود الله. وهو في كل ذلك يلمح إشارات من نفسه الروحانية. “إن زرع الخلود الذي حمله في ذاته، والذي لا ينتهي في المادة”، إن نفسه لا يمكن أن يكون مبدأها في غير الله وحده.
34- العالم والإنسان يثبتان أن ليس لهما في ذاتهما مبدأهما الأول ولا غايتهما الأخيرة، ولكنهما يشتركان في الكائن بذاته الذي لا مبدأ له ولا نهاية. وهكذا يستطيع الإنسان بهذه “السبل” المختلفة أن يدخل في معرفة وجود حقيقة هي المبدأ الأول والغاية الأخيرة لكل شيء، وهي “التي يسميها الجميع الله”.
35- إن قوى الإنسان تجعله قادرا على معرفة وجود إله شخصي. ولكن لكي يتمكن الإنسان من الدخول في ألفة الله، أراد الله أن يكشف له عن ذاته، وأن يمنحه النعمة التي تمكنه من تقبل هذا الوحي في الإيمان. وعلى كل حال، فالأدلة على وجود الله من شأنها أن تعد للإيمان وأن تساعد على التثبت في أن لا خلاف بين الإيمان والعقل البشري.
3. معرفة الله في رأي الكنيسة
36- ” إن أمنا الكنيسة المقدسة ترى وتعلم أنه من الممكن أن يعرف الله، مبدأ كل الأشياء وغايتها، معرفة يقين بنور العقل الإنساني الطبيعي انطلاقا من الأشياء المخلوقة “. وبدون هذه المقدرة لا يستطيع الإنسان أن يتقبل وحي الله. وهو ينعم بهذه المقدرة لأنه مخلوق “على صورة الله” (تك 1: 27).
37- والإنسان، في الحالات التاريخية التي يوجد فيها، يعاني صعوبات كثيرة في اعتماده على نور العقل وحده لمعرفة الله :
“وإن كان في استطاعه العقل البشري – نقول ذلك في بساطة- أن يتوصل، بقواه الطبيعية ونوره الطبيعي، إلى معرفة إله شخصي معرفة حقيقية وثابتة، إله يصون العالم ويسوسه بعنايته، وإلى معرفة ناموس طبيعي جعله الخالق في نفوسنا، فهنالك مع ذلك عقبات كثيرة تحول دون أن يستعمل هذا العقل نفسه طاقته الطبيعية استعمالا ناجعا وذا فائدة، لأن الحقائق التي تتعلق بالله وبالبشر تفوق، على وجه مطلق، نظام الأشياء الحسية، وإذا كانت في سياق أن تترجم إلى عمل وإلى أن تصبغ الحياة، فهي تقتضي بذل الذات والزهد. وفي سبيل الحصول على مثل هذه الحقائق تعاني النفس البشرية صعوبات من قبل الحواس والمخيلة، كما من قبل الميول الشريرة الناتجة عن الخطيئة الأصلية. من هنا يسهل الاقتناع عند البشر، في مثل هذه المواد، بعدم صوابية الأشياء التي يتمنون لها عدم الصوابية، أو على الأقل عدم ثباتها”.
38- ولهذا فالإنسان بحاجة إلى أن ينيره وحي الله، ليس في ما يفوق إدراكه وحسب، ولكن في أمر “الحقائق الدينية والأخلاقية أيضا التي لا يعجز العقل عن إدراكها، وذلك لكي تصبح، في الوضع الحالي للجنس البشري، معروفة لدى الجميع في غير عسر، معروفة معرفة أكيدة ثابتة ولا يشوبها ضلال”.
4. كيف التكلم على الله
39- مع الدفاع عن مقدرة العقل البشري على معرفة الله، تعبر الكنيسة عن ثقتها في إمكان التكلم على الله لجميع البشر ومع جميع البشر. وهذا الاقتناع هو منطلق حوارها مع سائر الأديان، ومع الفلسفة والعلوم، وكذلك مع الكفرة والملحدين.
40- وإذ كانت معرفتنا لله محدودة، فكلامنا على الله محدود أيضا . إننا لا نستطيع أن نسمي الله إلا إنطلاقا من المخلوقات، وعلى طريقتنا البشرية المحدودة في المعرفة والتفكير.
41- في جميع المخلوقات بعض الشبة بالله، ولا سيما الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. فالكمالات المتعددة في الخلائق (حقيقتها، وصلاحها، وجمالها) تعكس إذن كمال الله اللامتناهي. ولنا من ثم أن نسمي الله انطلاقا من كمالات خلائقه، “فإنه بعظم المبروءات وجمالها ناظرها على طريق المقايسة” (حك 13: 5).
42- الله يسمو على كل خليقة. فيجب علينا من ثم وعلى الدوام تنقية كلامنا من كل ما فيه من محدود، وناقص، حتى لا نخلط الله “الذي لا يفي به وصف. ولا يحده عقل، ولا يرى ولا يدرك” بتصوراتنا البشرية. إن أقوالنا البشرية تظل أبدا دون سر الله.
43- عندما نتكلم هكذا على الله، يعبر كلامنا تعبيرا بشريا، ولكنة في الحقيقة يصل إلى الله نفسه، وإن لم يتمكن مع ذلك من التعبير عنه في لا نهاية بساطته. ومن ثم يجب أن نتذكر أنه “مهما كان من شبة بين الخالق والمخلوق، فالاختلاف بينهما أعظم أيضا”، واننا “لا نستطيع أن نعرف من الله ما هو، بل ما ليس هو فقط، وكيف تقع الكائنات الأخرى بالنسبة إليه” .
بإيجاز:
44- الإنسان بطبيعته وبدعوته كائن متدين. وإذ كان الإنسان آتيا من الله وذاهبا نحوه، فهو لا يحيا حياة بشرية كاملة إلا إذا عاش حرا في صلته بالله.
45- الإنسان مصنوع لكي يعيش في شركة مع الله وفيه يجد سعادته: “عندما أصير يكليتي فيك أصبح أبدا في نجاة من الغم والشدة؛ وعندما تصير حياتي مليئة بك، تكون قد بلغت غايتها”.
46- عندما يصغي الإنسان إلى شهادة المبرؤات وإلى صوت ضميرة، يستطيع أن يبلغ إلى اليقين في ما هو من وجود الله، مصدر كل شيء وغايته.
47- الكنيسة تعلم أن الله الواحد والحقيقي، خالقنا وربنا، تمكن معرفته معرفة أكيدة عن طريق صنائعه بنور العقل البشري الطبيعي.
48- نستطيع في الحقيقة أن نسمي الله انطلاقا من الكمالات المتعددة في الخلائق، تلك المماثلات لله في لا نهاية كمالة، وإن قصر تعبيرنا المحدود عن استيعاب سرة.
49- “الخليقة تتلاشى بدون الخالق”. ولهذا فالمؤمنون يستشعرون في ذواتهم محبة المسيح تحضهم على أن يحملوا نور الله الحي إلى الذين يجهلونه أو يرفضونه.
Discussion about this post