الفقرة 3- الكلي القدرة
268- من جميع الصفات الإلهية لم يذكر في قانون الإيمان الا صفة واحدة هي القدرة الكلية: وللاعتراف بها مدى بعيد لحياتنا. نؤمن بأنها شاملة، لأن الله الذي خلق كل شيء يسوس كل شيء، ويقدر على كل شيء؛ ومحبة، لأن الله آب؛ وسرية، لأن الإيمان وحده يستطيع أن يكتشفها عندما “يبدو كمالها في الوهن” (2 كو 12: 9) .
كل ما شاء صنع (مز 115: 3)
269- الأسفار المقدسة كثيرا ما تعترف بقدرة الله الشاملة. فهو يدعى “عزيز يعقوب” (تك 49: 24؛ أش 1: 24 وغ)، “رب الجنود”، “العزيز الجبار” (مز 24: 8-10). فإذا كان الله الكلي القدرة “في السماوات وعلى الأرض” (مز 135: 6) فذلك أنه صنعها. فما من أمر مستحيل عليه إذا، وهو يتصرف بصنيعه كما يشاء ؛ إنه رب الكون الذي أقام له نظاما يبقى خاضعا له خضوعا تاما وطوع إرادته . وهو سيد التاريخ: يسوس القلوب والأحداث وفق ما يشاء :” عندك قدرة عظيمة في كل حين، فمن يقاوم قوة ذراعك” ؟ (حك 11: 22).
“ترحم الجميع لأنك قادر على كل شيء” (حك 11: 23)
270- الله هو الآب الكلي القدرة. أبوته وقدرته تجلو أحداهما الأخرى . وهكذا فهو يظهر قدرته الكلية الأبوية بالطريقة التي يهتم فيها لحاجاتنا ؛ بالتبني الذي يعطيناه (“أكون لكم أبا وتكونون لي بنين وبنات يقول الرب القدير”، 2 كو 6: 18)؛ وأخيرا برحمته الغير المتناهية، إذ أنه يظهر قدرته إلى اقصى حد عندما يغفر خطايانا غفرانا حرا.
271- القدرة الإلهية الكلية ليست تعسفية البتة: “في الله القدرة والانية، الإرادة والعقل، الحكمة والعدل، حقيقة واحدة، بحيث لا شيء يمكن أن يكون في القدرة الإلهية ولا يمكن أن يكون في إرادة الله العادلة أو في عقله الحكيم ” .
سر عجز الله الظاهر
272- الإيمان بالله الآب الكلي القدرة قد يوضع على محك الامتحان بتجربة الشر والألم. فقد يبدو الله في بعض الأحيان غائبا وعاجزا عن منع الشر. والحال أن الله الآب قد أظهر قدرته الكلية على أعجب صورة يتنازل ابنه الطوعي وبقيامته اللذين تغلب بهما على الشر. وهكذا فالمسيح المصلوب هو “قدرة الله وحكمته؛ لأن ما هو جهالة عند الله أحكم من الناس، وما هو ضعف عند الله أقوى من الناس” (1 كو 1: 25) . في قيامة المسيح وتمجيده “بسط الآب عزه قوته” وأظهر “فرط عظمة قدرته لنا نحن المؤمنين ” (أف 1: 19 -22).
273- الإيمان وحده يستطيع أن يلزم السبل العجيبة لقدرة الله الكلية. وهذا الإيمان يفخر بضعفه لاجتذاب قدرة المسيح إليه . والعذراء مريم، أسمى نموذج لهذا الإيمان، هي التي آمنت بأن “لا شيء يستحيل على الله” (لو 1: 37)، والتي استطاعت أن تمجد الرب: “القدير صنع بي عظائم، فاسمه قدوس” (لو 1: 49).
274- “لا شيء من شأنه أن يثبت إيماننا ورجاءنا مثل اليقين العميق المحفور في نفوسنا بأن لا شيء يستحيل على الله. فكل ما يعرضه قانون الإيمان بعد ذلك لإيماننا: أعظم الأمور، وأغلقها، وكذلك أشد الأمور تعاليا على نواميس الطبيعة العادية، فحالما تحظر لعقلنا مجرد فكرة القدرة الإلهية الكلية، يبادر إلى تقبلها بسهولة وبدون أي تردد .
بإيجاز:
275- مع أيوب الصديق نعترف: “علمت أنك قادر على كل أمر فلا يتعذر عليك مراد” (أي 42: 2).
276- في أمانة لشهادة الكتاب المقدس، كثيرا ما توجه الكنيسة صلاتها إلى “الله الكلي القدرة والأزلي” معتقدة اعتقادا راسخا أن “لا شيء يستحيل على الله ” (لو 1: 37) .
277- يظهر الله قدرته الكلية بتحويلنا عن آثامنا وأنانيتنا إلى صداقته بالنعمة :” يا الله، الذي تعطي البرهان الأعلى على قدرتك عندما تصبر وترحم … ” .
278- ما لم نؤمن بأن حب الله كلي القدرة، كيف نؤمن بأن الآب استطاع أن يخلصنا، والابن أن يفتدينا ، والروح القدس أن يقدسنا؟
الفقرة 4- الخالق
279- “في البدء خلق الله السماء والأرض” (تك 1:1).هذه الكلمات الاحتفالية تتصدر الكتاب المقدس. وقانون الإيمان يكرر هذه الكلمات معترفا بالله الآب الكلي القدرة على أنه “خالق السماء والآرض” ، “الكون المرئي وغير المرئي” ، فسنتكلم إذا على الخالق أولا، ثم على خلقه، وأخيرا على عثرة الخطيئة التي أتى يسوع ابن الله ليخلصنا منها .
280- الخلق هو أساس “جميع تصاميم الله الخلاصية”، “بدء تاريخ الخلاص” الذي بلغ ذروته في المسيح. وبعكس ذلك، فسر المسيح هو النور الحاسم على سر الخلق؛ إنه يكشف عن الهدف الذي من أجله “في البدء خلق الله السماء والأرض” (تك 1:1) : منذ البدء كان في نظر الله مجد الخلق الجديد في المسيح .
281- ولهذا تبدأ قراءات الليلة الفصحية، أي الاحتفال بالخلق الجديد في المسيح، بقصة الخلق؛ وقصة الخلق هذه تقوم بها دائما، في الليترجيا البيزنطية ، القراءة الأولى من قراءات عشية الأعياد السيدية الكبرى. وكان تعليم الموعوظين للمعمودية، على حد ما يرويه الأقدمون، ينهج النهج نفسه .
1. التعليم المسيحي في موضوع الخلق
282- للتعليم المسيحي في موضوع الخلق أهمية رئيسية. إنه يعنى بأسس الحياة البشرية والمسيحية نفسها: إذ أنه يصرح بجواب الإيمان المسيحي عن السؤال البدائي الذي تساء له البشر في جميع العصور: “من أين نأتي؟”، “إلى أين نذهب؟”، “ماهو مصدرنا؟” ، “ما هي غايتنا؟” ، “من اين اتى وأين ينتهي كل موجود؟”. السؤالان، السؤال عن المصدر والسؤال عن الغاية، لا ينفصل احدهما عن الآخر. إنهما تقريريان بالنسبة إلى معنى حياتنا وسلوكنا وتوجيهما.
283- كانت مبادىء العالم والإنسان موضوع أبحاث علمية أغنت إغناء عظيما معارفنا بالنسبة إلى عمر الكون وإحجامه، وصيرورة الأنواع الحية، وظهور الإنسان. هذه الاكتشافات تدعونا إلى زيادة في النظر إلى عظمة الخالق بإعجاب، وإلى حمده من أجل صنائعه ومن أجل ما يمنح العلماء والباحثين من الفهم والحكمة. هؤلاء يستطيعون أن يقولوا مع سليمان : “وهبني يقينا بالكائنات حتى أعرف نظام العالم وفاعلية العناصر (…)لأن الحكمة مهندسة هي علمتني” (حك 7: 17-21).
284- إن الفائدة الكبرى المعلقة على هذه الأبحاث يزيد الحاجة إلى تطلبها، زيادة شديدة، سؤال من نظام آخر يفوق مجال العلوم الطبيعية الخاص. فالموضوع لا ينحصر في معرفة متى وكيف ظهر الكون ماديا، ولا متى ظهر الإنسان، بل بالأحرى في اكتشاف معنى مثل هذا الصدور: هل تتحكم به الصدفة، قدر أعمى، ضرورة غفل، أو كائن أعلى، عاقل وصالح، يدعى الله. وإذا كان العالم صادرا عن حكمة الله وصلاحه، ففيم الشر؟ ما مصدره؟ من المسؤول عنه؟ وهل من تحرر منه؟
285- الإيمان المسيحي قوبل منذ ظهوره بأجوبه تخالف جوابه في موضوع المبادىء. وهكذا فإننا نجد في الأديان والثقافات القديمة أساطير كثيرة في موضوع المبادىء. فقد قال بعض الفلاسفة بأن الكل هو الله، بأن العالم هو الله، أو بأن صيرورة العالم هي صيرورة الله (حلولية)؛ وقال آخرون بأن العالم فيض حتمي من الله، جار من هذا الينبوع وعائد إليه؛ وأثبت آخرون وجود مبداين خالدين، الخير والشر، النور والظلمة، في صراع دائم (ثنائية، مانوية)؛ وفي بعض التصورات أن العالم (على الأقل العالم المادي) قد يكون شريرا، ثمرة سقطة، ويجب من ثم نبذة أو الترفع عليه (غنوصية)؛ ويسلم آخرون بأن العالم من صنع الله ولكن على طريقة الساعاتي الذي جعل حبله على غاربه بعد إذ صنعه (تأليه طبيعي)؛ ورفض أخيرا آخرون أي مبدأ متسام للعالم، ويرون فيه مجرد تفاعل لمادة وجدت على الدوام (مادية). جميع هذه المحاولات تشهد بتواصل مسألة المبادىء وشمولها. وهذا التحري هو من خواص الإنسان.
286- مما لا شك فيه أن العقل البشري يستطيع أن يجد جوابا عن مسألة المبادىء. فمن الممكن أن يعرف وجود الله الخالق معرفة يقين عن طريق أعماله بفضل نور العقل البشري ، وإن جعل الضلال هذه المعرفة، في أحيان كثيرة، غامضة ومشوهه. ولهذا يبادر الإيمان ليثبت العقل وينيره في تفهم هذه الحقيقة تفهما صحيحا:” بالإيمان نعلم أن العالم قد أنشىء بكلمة الله بحيث أن ما يرى صدر عما لا يرى” (عب 11: 3).
287- إن حقيقة الخلق هي بهذه الأهمية للحياة البشرية كلها بحيث أن الله أراد، في عطفه، أن يكشف لشعبه عن كل ما معرفته خلاصية في الموضوع. وعلاوة على المعرفة الطبيعية التي يستطيع كل إنسان أن يعرف بها الخالق ، كشف الله مرحليا لإسرائيل عن سر الخلق، هو الذي اختار الآباء، وأخرج اسرائيل من مصر، والذي، باختياره اسرائيل، خلقه ونشأه ، وهو يكشف عن نفسه على أنه يملك جميع شعوب الأرض، والأرض كلها، على أنه هو وحده الذي صنع السماء والأرض” (مز 115: 15؛ 124: 8؛ 134: 3).
288- وهكذا فالوحي بالخلق لا ينفصل عن الوحي بعهد الله الواحد لشعبه وتحقيق ذلك العهد. لقد أوحى بالخلق وكأنه الخطوة الأولى نحو هذا العهد، وكأنه الشهادة الأولى الشاملة لمحبة الله الكلية القدرة . ولهذا فحقيقة الخلق يعبر عنها بشدة متصاعدة في رسالة الأنبياء ، في صلاة المزامير والليترجيا، في تأملات حكمة الشعب المختار.
289- بين جميع أقوال الكتاب المقدس في الخلق تحتل فصول سفر التكوين الثلاثة الأولى محلا فريدا. من الناحية الأدبية قد يكون لهذه النصوص مصادر مختلفة. وقد جعلها الكتاب الملهمون في فاتحة الكتاب المقدس بحيث أنها تعبر، بلغتها الاحتفالية، عن حقائق الخلق، عن مصدره وانتهائه في الله، عن نظامه وجودته، عن دعوة الإنسان، وأخيرا عن مأساة الخطيئة ورجاء الخلاص. عندما تقرا هذه الأقوال على ضوء المسيح، في وحده الكتاب المقدس وفي تقليد الكنيسة الحي، تظل الينبوع الرئيسي لتعليم أسرار”البداية”: الخلق والسقوط والوعد بالخلاص.
2. الخلق- عمل الثالوث الأقدس
290- “في البدء خلق الله السماء والأرض”: ثلاثة امور أعلنت في هذه الكلمات الأولى من الكتاب :” الله الأزلي جعل بدءا لكل ما يوجد خارجا عنه. هو وحده خالق (الفعل “خلق”)، وبالعبرانية “برا”، فاعله الله دائما). كل ما يوجد (المعبر عنه بالقول “السماء والأرض”)يتعلق بالذي يمنحه الوجود.
291- “في البدء كان الكلمة (…) وكان الكلمة الله (…) به كون كل شيء وبدونه لم يكن شيء مما كون” (يو 1: 1-3). فالعهد الجديد يكشف عن أن الله خلق كل شيء بالكلمة الأزلية، ابنه الحبيب: “ففيه خلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض (…) به وله خلق كل شيء. إنه قبل كل شيء وفيه يثبت كل شيء” (كول 1: 16-17). وإيمان الكنيسة يثبت أيضا عمل الروح القدس الخلاق: إنه ” واهب الحياة” ، “الروح الخالق” (“هلم ايها الروح الخالق” )، “ينبوع كل خير” .
292- إن عمل الابن والروح الخلقي، الذي أشير إليه في العهد القديم ، وكشف عنه في العهد الجديد، الواحد مع عمل الآب في غير انفصال، قد أثبته بوضوح قاعدة إيمان الكنيسة: ” لا يوجد إلا إله واحد (…) هو الآب، وهو الله، وهو الخالق، وهو الصانع، وهو المنظم. صنع كل شيء بنفسه، أي بكلمته وبحكمته” ، “بالابن والروح” اللذين هما بمثابه “يديه” ، الخلق هو عمل الثالوث الأقدس المشترك .
3. “العالم خلق لمجد الله”
293- إنها حقيقة أساسية لا يكف الكتاب والتقليد عن تعليمها والاحتفال بها: “خلق العالم لمجد الله” . ويفسر ذلك القديس بونفنتورة بقوله: لقد خلق الله كل شيء “لا لزيادة مجده، بل لإظهار ذلك المجد والإشراك فيه” . فما من داع يدعو الله إلى الخلق سوى محبته وجودته: “مفتاح المحبة هو الذي فتح كفه لإنشاء الخلائق” . والمجمع الفاتيكاني الأول يشرح :
” هذا الإله الواحد الحقيقي، في صلاحه وبقوته الكلية القدرة، لا لزيادة سعادته ولا لتحصيل كماله، بل لإظهاره بالخيرات التي يوفرها لخلائقه، وفي التصميم الأكثر حرية أيضا، خلق، منذ بدء الزمان، كلتا الخليقتين، الروحانية والجسدانية” .
294- مجد الله هو في أن يتحقق هذا الظهور لصلاحه وهذه المشاركة فيه اللذين من أجلهما خلق العالم. فان يجعلنا “أبناء بالتبني بيسوع المسيح: هذا ما كان تصميم إرادته العطوف لتسبحة مجد نعمته” (أف 1: 5-6). “إذ أن مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان، هي رؤية الله: فإذا كان الكشف عن الله بالخلق وفر الحياة لجميع الكائنات التي تعيش على الأرض، فكم بالأحرى يوفر ظهور الآب بالكلمة الحياة للذين يرون الله” . إن غاية الخلق القصوى هي في أن يصبح الله “خالق جميع الكائنات”، أخيرا”كلا في الكل”(1 كو 25: 28)، موفرا مجده وسعادتنا معا” .
4. سر الخلق
الله يخلق بحكمة ومحبة
295- نحن نؤمن أن الله خلق العالم بحسب حكمته . فالعالم ليس صنع إحدى الحتميات، صنع قدر أعمى أو صدفة. نحن نؤمن أنه يصدر عن إرادته حرة لله الذي أراد أن يشرك الخلائق في كينونته وحكمته وجودته :” لأنك أنت خلقت جميع الأشياء، وبمشيئتك كانت وخلقت” (رؤ 4: 11). ” ما أعظم أعمالك، يا رب، لقد صنعت جميعها بالحكمة” (مز 104: 24). “الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه “(مز 145: 9).
الله يخلق ” من العدم”
296- نحن نؤمن أن الله ليس بحاجة إلى شيء سابق الوجود، ولا إلى عون لكي يخلق . والخلق كذلك ليس انبثاقا حتميا من جوهر الله . الله يخلق خلقا حرا “من العدم” :
“هل يكون الأمر عجيبا لو أخرج الله العالم من مادة موجودة؟ عندما يعطى صانع بشري مادة ما فإنه يصنع بها ما يشاء. أما قدرة الله فإنها تظهر بوضوح عندما ينطلق من العدم لكي يصنع كل ما يريد” .
297- الإيمان بالخلق “من العدم” مثبت في الكتاب كحقيقة مليئة بالوعد والرجاء. وهكذا فأم الأبناء السبعة تحثهم على الاستشهاد:
” إني لست أعلم كيف نشأتم في أحشائي، ولا أنا منحتكم الروح والحياة، ولا أحكمت تركيب أعضائكم؛ على أن خالق العالم الذي جبل تكوين الإنسان وأبدع لكل شيء تكوينه سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة، لأنكم الآن تبذلون أنفسكم في سبيل شريعته (…). انظر، يا ولدي، إلى السماء والأرض، وإذا رأيت كل ما فيها فأعلم أن الله صنع الجميع من العدم، وكذلك وجد جنس البشر” (2 مك 7: 22-23، 28).
298- وبما أن الله يستطيع أن يخلق من العدم، فهو يستطيع أيضا، بالروح القدس، أن يمنح الخطأة حياة النفس خالقا فيهم قلبا طاهرا ، والأموات حياة الجسد بالقيامة، هو الذي “يحي الأموات ويدعو ما هو غير كائن إلى أن يكون”(رو 4: 17). وبما أنه استطاع بكلمته أن يطلع النور من الظلمات ، فهو يستطيع أيضا أن يمنح نور الإيمان لمن يجهلونه .
الله يخلق عالما منظما وحسنا
299- إذا كان الله يخلق بحكمة، فخلقه يكون منظما: “رتبت كل شيء بمقدار وعدد ووزن” (حك 11: 21) وإذ جرى الخلق في الكلمة الأزلي وبالكلمة الأزلي “صورة الله غير المنظور”(كو 1: 15) فهو معد للإنسان وموجه إليه على أنه صورة الله ، ومدعو هو نفسه إلى علاقة شخصيه بالله. وإذ كان عقلنا مشتركا في نور العقل الإلهي، فهو يستطيع أن يدرك ما يقوله لنا الله بخلقه ، ولو بجهد غير يسير، وبروح اتضاع واحترام أمام الخالق وصنيعه . وإذ كان الخلق صادرا عن الصلاح الإلهي فهو يشترك في هذا الصلاح (“وراى الله ذلك أنه حسن (…) حسن جدا” : تك 1: 4، 10، 12، 18، 21، 31). ذلك أن الله أراد الخلق هبه موجهة إلى الإنسان، بمثابة إرث خص به وأودعه. وقد اضطرت الكنيسة، مرات عدة، إلى أن تدافع، عن جودة الخلق، وفيه العالم المادي .
الله يسمو بالخليقة ويحضر فيها
300- الله أعظم من صنائعه على وجه غير محدود : “عظمته فوق السماوات” (مز 8: 2)، ” ليس لعظمته استقصاء”(مز 145: 3). ولكن بما أنه الخالق المطلق والحر، والعلة الأولى لكل موجود، فهو حاضر في خلائقه حضورا حميما جدا:” به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 28). وهو، على حد قول اوغسطينوس، “أعلى من كل ما هو أعلى في، وأعمق مما هو أعمق” .
الله يصون الخليقة ويحملها
301- يخلق الله ولا يترك خليقته على ذاتها. إنه لا يكتفي بمنحها الكينونة والوجود، فيصونها في الكينونة كل حين، ويهبها أن تعمل، ويقودها إلى نهايتها. والإقرار بهذه التبعية الكاملة بالنسبة إلى الخالق هو ينبوع حكمة وحرية، وفرح وثقة :
” أجل ، إنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئا مما صنعت؛ فإنك لو أبغضت شيئا لم تكونه. وكيف يبقى شيئا لم ترده، أم كيف يحفظ ما لست أنت داعيا له. إنك تشفق على جميع الكائنات لأنها لك، أيها الرب المحب الحياة” (حك 11: 24-26).
5. الله يحقق تصميمه : العناية الإلهية
302- للخليقة جودتها وكمالها الخاصان، ولكنها لم تخرج من يدي الخالق كاملة الكمال. إنها مخلوقة في حالة مسيرة إلى كمال أقصى عليها أن تبلغه بعد، كمال أعدها الله له. ونحن ندعو عناية إلهية التدابير التي يقود بها الله خليقته إلى كمالها .
” الله يصون ويسوس بعنايته كل ما خلق، “بالغة من غاية إلى غاية بالقوة، ومدبرة كل شيء بالرفق” (حك 8: 1). “فلذلك ما من خليقة مستترة عنها، بل كل شيء عار لعينيها” (عب 4: 13)، حتى الأشياء التي يأتي بها عمل الخليقة الحر ” .
303- شهادة الكتاب المقدس اجماعية : اهتمام العناية الإلهية واقعي وفوري، فهي تعنى بكل شيء، من أحقر الأمور الصغيرة إلى أحداث العالم والتاريخ العظيمة. والأسفار المقدسة تشدد على سيطرة الله المطلقة على مجرى الأحداث:” إلهنا في السماء وعلى الأرض، كل ما شاء صنع”(مز 115: 3). وعن المسيح قيل:” يفتح فلا يغلق أحد، ويغلق فلا يفتح أحد”(رؤ 3: 7)؛ “في قلب الإنسان أفكار كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت” (أم 19: 21).
304- هكذا نرى الروح القدس، وهو مؤلف الكتاب المقدس الرئيسي، كثيرا ما ينسب إلى الله أعمالا، بدون أن يذكر لها عللا ثانية. ليس ذلك “أسلوبا في التحدث” بدائيا، ولكنه نهج عميق في التذكير بأولية الله وسيادته المطلقة على التاريخ وعلى العالم ، ويبعث الثقة فيه. وصلاة المزامير هي المدرسة الكبرى لهذه الثقة .
305- يسوع يطلب استسلاما بنويا لعناية الآب السماوي الذي يعنى بأصغر حاجات أبنائه: “لا تقلقوا إذن قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب؟ (…) أبوكم السماوي عالم بأنكم تحتاجون إلى هذا كله. بل اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذا كله يزاد لكم” (متى 6: 31-33) .
العناية والعلل الثانية
306- الله هو سيد تصميمه المطلق. ولكنه يستعين ايضا، في تحقيقه، بعمل خلائقه. وليس ذلك علاقة ضعف، ولكنه دليل عظمة الله الكلي القدرة وجودته؛ لأن الله لا يمنح خلائقه أن يوجدوا وحسب، بل يمنحهم أيضا كرامة العمل الذاتي، وأن يكون بعضهم علل البعض الآخر ومبادئه، ويشتركوا هكذا في إتمام تصميمه .
307- والله يمنح البشر أيضا المقدرة على الاشتراك الحر في عنايته بأن يلقي اليهم بمسؤولية “إخضاع” الأرض والتسلط عليها وهكذا يعطي الله البشر أن يكونوا على عاقلة وحرة لإتمام عمل الخلق، وتحقيق التناغم لصالحهم وصالح قريبهم. وإن كان البشر في كثير من الأحيان شركاء غير واعين في إرادة الله، فإنهم يستطيعون أن يدخلوا اختياريا في التصميم الإلهي، وصلواتهم، ثم بآلامهم ايضا . وهم يصبحون إذ ذاك كليا “عاملين مع الله” (1 كو 3: 9) وملكوته .
308- حقيقة لا تنفصل عن الإيمان بالله الخالق: إن الله يعمل في كل عمل لخلائقه. إنه العلة الأولى التي تعمل في العلل الثانية وبها”الله هو الذي يفعل فيكم الإرادة والعمل نفسه على حسب مرضاته” (فيل 2: 13) . وهذه الحقيقة بعيدة عن أن تحط من كرامة الخليقة، فهي تعليها. فالخليقة التي أنشاتها من العدم قدرة الله وحكمته وجودته، لا تسطيع شيئا إذا اجتثت من أصلها، لأن “الخليقة تتلاشى بدون الخالق” ؛ وهي إلى ذلك أن تبلغ غايتها القصوى بدون معونة النعمة .
العناية الإلهية ومشكلة الشر
309- إذا كان الله الآب الكلي القدرة، خالق العالم منظما وحسنا، يعتني بجميع مخلوقاته، فلماذا الشر موجود؟ عن هذه المسألة الملحة بقدر ما هي حتمية، والأليمة بقدر ما هي سرية ، ما من جواب سريع يكفيها. الجواب هو في مجموعة الإيمان المسيحي: جودة الخلق، مأساة الخطيئة، أناة محبة الله الذي يسعى إلى ملاقاة البشر بعهوده، بتجسد ابنه الخلاصي، بموهبة الروح، بتجميع الكنيسة، بقوة الأسرار، بالدعوة إلى حياة سعيدة والمخلوقات الحرة مدعوة مسبقاً إلى قبولها، كما هي قادرة أيضاً مسبقاً، وبسر رهيب، أن تتجنبها. ما من حرف في الرسالة المسيحية لا يدخل في الجواب عن مسألة الشر .
310- لماذا لم يخلق الله عالماً من الكمال بحيث لا يتمكن أي شر من الوجود فيه ؟ الله، في قدرته غير المتناهية، يستطيع دائماً أن يخلق شيئاً أفضل . ومع ذلك فقد أراد الله، في حكمته وجودته، واختياره أن يخلق عالماً “في حالة مسيرة” إلى كماله الأقصى. وهذه الصيرورة تقتضي، في تصميم الله، مع ظهور بعض الكائنات انقراض غيرها، مع الأكمل الأقل كمالاً أيضاً، مع أعمال بناء الطبيعة أعمال هدمها أيضاً. فمع الخير الطبيعي يوجد أيضاً الشر الطبيعي ما دام الخلق لم يبلغ بعد كماله .
311- الملائكة والبشر، بكونهم مخلوقات عاقلة وحرة، يجب أن يسيروا نحو غايتهم القصوى باختيار حر ومحبة للأفضل. فبإمكانهم أن يضلوا. وقد خطئوا فعلاً. وهكذا دخل الشر الأدبي العالم، وهو، وإن لم يكن له وللشر الطبيعي قياس مشترك، يفوقه خطورةً. والله ليس البتة علة الشر الأدبي ، لا مباشرةً ولا بوجه غير مباشر . ولكنه يسمح به، مراعياً حرية خليقته، ويعرف، بطريقة سرية، كيف يستخرج منه الخير:
” فالله الكلي القدرة (…)، في صلاحه المطلق، لا يدع أبداً أي شر يكون في صنائعه لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي لاستخراج الخير من الشر نفسه .”
312- وهكذا، مع الوقت، يمكن اكتشاف أن الله، في عنايته الكلية القدرة، يستطيع أن يستخرج خيراً من عواقب شر، ولو أدبياً، سببته خلائقه. قال يوسف لإخوته: “لا أنتم بعثتموني إلى ههنا بل الله؛ (…) أنتم نويتم علي شراً والله نوى به خيراً لكي يحيي شعباً كثيراً” ( تك 8:45 ؛ 20:50 ) . ومن أعظم شر أدبي اقترف على الدهر ، أي نبذ ابن الله وقتله، بسبب خطيئة جميع البشر، استخرج الله، في فيض نعمته ، أعظم الخيور: تمجيد المسيح وفداءنا. والشر لا يتحول مع ذلك إلى خير.
313- ” كل شيء يسعى لخير الذين يحبون الله ” ( رو 28:8). وفي شهادة القديسين المتواصلة ما يثبت هذه الحقيقة:
وهكذا فالقديسة كاترينا السيينية تقول “للذين يتشككون ويثورون من جراء ما يصيبهم”: “كل شيء يصدر عن المحبة، كل شيء موجه لخلاص الإنسان. الله لا يعمل شيئاً إلا لهذه الغاية” .
والقديس تومت مور، قبيل استشهاده ، يقول معزياً ابنته: “لا شيء يمكن أن يحصل بغير إرادة الله. ومن ثم فكل ما يريده، مهما ظهر لنا سيئاً ، هو مع ذلك أفضل ما يكون لنا” .
وتقول الليدي جوليان دي نورويتش:” لقد أدركت، بنعمة الله، أنه من الواجب أن أتشبث بالإيمان تشبثاً شديداً، وأن أعتقد اعتقاداً ليس دونه ثباتاً، أن الأمور كلها ستكون حسنة …. وسترى أن الأمور كلها ستكون حسنة ” .
314- نحن نؤمن إيماناً ثابتاً أن الله سيد العالم والتاريخ. ولكن سبل عنايته كثيراً ما تخفى عنّا. ففي النهاية فقط، عندما تنتهي معرفتنا الجزئية، عندما نرى الله “وجهاً إلى وجه” ( 1 كو 12:13)، ستتضح لنا السبل اتضاحاً كاملاً، السبل التي، حتى في ما بين مآسي الشر والخطيئة، يقود الله خليقته عبرها إلى راحة السبت النهائي، الذي خلق لأجله السماء والأرض .
بإيجاز:
315- في خلق العالم والإنسان أرسى الله الشهادة الأولى والشاملة لمحبته الكلية القدرة وحكمته، الإعلان الأول لِ “تصميمه العطوف” الذي ينتهي بالخليقة الجديدة في المسيح .
316- وإن كان عمل الخلق منسوباً، على وجه خاص، إلى الآب، فمن حقيقة الإيمان أيضاً أن الآب والابن والروح القدس هم المبدأ الواحد والغير منفصل للخلق .
317- الله وحده خلق الكون باختياره، ومباشرةً، ومن دون أية معونة .
318- ما من خليقة تملك القدرة الغير متناهية الضرورية “للخلق” بمعناه الدقيق، أي إحداث الوجود وإعطائه لما لم يكن له قط (الدعوة إلى الوجود “من العدم”).
319- الله خلق العالم ليظهر مجده ويشرك فيه. أن تشرك خلائقه في حقيقته ، وجودته، وجماله، هذا هو المجد الذي خلقها لأجله.
320- الله الذي خلق الكون يبقيه في الوجود بكلمته، “هذا الابن الذي يضبط كل شيء بقدرة كلمته” ( عب 3:1 ) وبروحه الخالق المحيي.
321- العناية الإلهية، هذه هي التدابير التي يقود بها الله جميع الخلائق، بحكمة ومحبة، إلى غايتها القصوى.
322- المسيح يدعونا إلى الاستسلام البنوي لعناية أبينا السماوي، والرسول القديس بطرس يعيد القول: “ألقوا عليه همكم كله، فإنه يعتني بكم” (1 بط 7:5).
323- العناية الإلهية تعمل أيضاً بعمل الخلائق. الله يعطي الكائنات البشرية أن تشرك في تصاميمه باختيارها.
324- سماح الله بالشر الطبيعي والشر الأدبي سر يجلوه الله بابنه يسوع المسيح الذي مات وقام للتغلب على الشر. الإيمان يثبت لنا أن الله لا يسمح بالشر لو لم يكن يستخرج الخير من الشر نفسه، بسبل لن نعرفها معرفة كاملة.
الفقرة 5 – السماء والأرض
325- قانون إيمان الرسل يعترف بأن الله “خالق السماء والأرض” ، وقانون إيمان نيقية – القسطنطينية يصرح: ” … الكون المرئي وغير المرئي” .
326- في الكتاب المقدس يعني التعبير “سماء وأرض”: كل ما يوجد، الخليقة كلها. وهو يدل أيضاً على العلاقة، في داخل الخليقة، التي، في الوقت نفسه، تربط وتميز السماء والأرض : و” الأرض” هي عالم البشر ، و”السماء” أو “السماوات” يمكن أن تدل على الجلد ، وأن تدل أيضاً على “المكان ” الخاص بالله: “أبانا الذي في السموات” ( متى 16:5 ) ، ومن ثم أيضاً “السماء” التي هي المجد الإسخاتولوجي. وأخيراً تدل “السماء” على “مكانة الخلائق الروحانية – الملائكة- التي تحيط بالله .
327- إن اعتراف المجمع اللاتراني الرابع الإيماني يثبت أن الله “منذ بدء الزمان جمع معاً الخلق من العدم لهذه وتلك الخليقة، الروحانية والجسدية، أي الملائكة والعالم الأرضي؛ ثم الخليقة البشرية التي تشارك الطرفين، لأنها مركبة من روح وجسد” .
1. الملائكة
وجود الملائكة – حقيقة إيمانية
328- وجود الكائنات الروحانية ، غير الجسدية ، التي درج الكتاب المقدس على تسميتها ملائكة ، حقيقة إيمانية. شهادة الكتاب المقدس واضحة وكذلك إجماع التقليد .
من هم ؟
329- يقول القديس أوغسطينوس في شأنهم: “ملاك يدل على المهمة لا على الطبيعة . تسأل عما تسمى هذه الطبيعة؟ – روح تسأل عن المهمة؟ – ملاك. هو من حيث هو، روح ، ومن حيث عمله ، ملاك ” . الملائكة ، في ذات كيانهم كله ، خدام الله ورسله ، لأنهم يشاهدون “بلا انقطاع وجه أبي الذي في السموات” ( متى 10:18)، إنهم “العاملون بكلمته عند سماع صوت كلامه” ( مز 20:103 ).
330- في كونهم خلائق روحانية مجردة ، هم عقل وإرادة: إنهم خلائق شخصية ، وغير مائتة . ويتفوقون على جميع الخلائق المرئية كمالاً. وألق مجدهم يشهد بذلك .
المسيح ” مع جميع ملائكته “
331- المسيح قلب العالم الملائكي. إنهم ملائكته: “متى جاء ابن البشر بمجده ملائكته معه …” ( متى 31:25). هم له لأنه هو الذي خلقهم وله خلقهم: “إذ فيه خلق جميع ما في السماوات وعلى الأرض، ما يرى وما لا يرى، عروشاً كان أم سيادات أم رئاسات أم سلاطين. به وإليه خلق كل شيء” ( كو 16:1 ). وهم له فوق ذلك لأنه جعلهم رسل قصده الخلاصي: “أوليسوا جميعهم أرواحاً خادمة، ترسل للخدمة من أجل المزمعين أن يرثوا الخلاص” ( عب 14:1).
332- إنهم ههنا منذ بدء الخليقة ، وعلى مدى تاريخ الخلاص، مبشرين، من بعيد أو من قريب، بهذا الخلاص، وخادمين القصد الإلهي في تحقيقه: يعلنون الفردوس الأرضي ، يحامون عن لوط ، ينقذون هاجر وابنها ، يوقفون يد إبراهيم ، يسلم الناموس على يدهم ، يقودون شعب الله ، يبشرون بولادات ودعوات ، يواكبون الأنبياء ، هذا إذا اقتصرنا على إيراد بعض الأمثلة. وأخيراً هذا الملاك جبرائيل الذي يبشر بولادة السابق وولادة يسوع نفسه .
333- من التجسد إلى الصعود كانت حياة الكلمة المتجسد تكتنفها عبادة الملائكة وخدمتهم. “عندما يدخل الله البكر إلى العالم يقول: لتسجد له جميع ملائكة الله” ( عب 6:1). ونشيد تسبحتهم عند ميلاد المسيح لا يزال يدوي في تسبيح الكنيسة: “المجد لله…..” ( لو 14:2). إنهم يحرسون طفولة يسوع ، ويخدمونه في البرية ، ويشددونه في النزاع ، عندما كان بإمكانه أن ينجو على يدهم من أيدي أعدائه ، كما جرى ذلك لإسرائيل قديماً . والملائكة هم الذين “يبشرون” ، مذيعين بشرى التجسد ، وبشرى قيامة المسيح . وسيكونون ههنا عند عودة المسيح التي يبشرون بها ، في خدمة دينونته .
الملائكة في حياة الكنيسة
334- إلى ذلك الموعد تنعم حياة الكنيسة كلها بمساعدة الملائكة السرية والقديرة .
335- والكنيسة ، في طقوسها ، تنضم إلى الملائكة في السجود لله الثلاثي القداسة ؛ وهي تطلب معونتهم ( كما في الصلاة: يقودك الملائكة في الفردوس … في ليترجيا الأموات ، أو أيضاً في “النشيد الشيروبيمي” في الليترجيا البيزنطية ) ؛ وهي تحتفل بنوع أخص بذكرى بعض الملائكة (القديس ميخائيل، والقديس جبرائيل، والقديس رافائيل، والملائكة الحراس).
336- من المولد إلى الوفاة يكتنفون الحياة البشرية بحراستهم وشفاعتهم . “لكل مؤمن ملاك يرافقه حارساً وراعياً لكي يقوده إلى الحياة” . منذ الوجود الأرضي تشترك الحياة المسيحية، بالإيمان، في المجتمع السعيد للملائكة والبشر المتحدين بالله.
2. العالم المرئي
337- الله نفسه هو الذي خلق العالم المرئي في كل غناه، وتنوعه، ونظامه. الكتاب المقدس يعرض لنا مشروع الخالق بطريقة رمزية يتسلسل على مدى ستة أيام من” العمل ” الإلهي، تنتهي” باستراحة” اليوم السابع . النص الملهم يعلم، في موضوع الخلق، حقائق أوحي بها الله لأجل خلاصنا ، من شأنها أن تساعد على “معرفة طبيعة الخلق العميقة، وقيمته، وهدفه الذي هو مجد الله” .
338- لا شيء موجود إلا ووجوده من الله الخالق . لقد ابتدأ العالم عندما استخرج من العدم بكلمة الله؛ جميع الكائنات الموجودة، كل الطبيعة، كل تاريخ البشر، تتأصل في هذا الحدث الرئيسي: إنه التكوين ذاته الذي تكون به العالم، وابتدأ الزمن .
339- كل خليقة تمتلك جودتها وكمالها الذاتيين. ولكل من صنائع “الأيام الستة” قيل: “ورأى الله ذلك إنه حسن”. ” فبواقع عمل الخلق نفسه تنتظم الأشياء كلها في شتى مقوماتها وحقيقتها وصلاحيتها ونواميسها وأنظمتها الخاصة” . الخلائق المختلفة، وقد أرادها الله في كيانها الخاص، تعكس، كل على طريقتها، شعاعا من حكمته وجودته الغير المتناهيتين. ولهذا وجب على الإنسان أن يحترم لكل خليقة جودتها الخاصة، لكي يتجنب استعمال الأشياء استعمالاً فوضوياً يزدري الخالق ويجر على البشر وعلى بيئتهم عواقب وخيمة .
340- ترابط الخلائق أراده الله. فالشمس والقمر، والأرزة والزهرة الصغيرة، والنسر والدوري: مشهد تنوعها وتباينها غير المحدودين يعني ان ليس لأي خليقة اكتفاء ذاتي. إنها لا توجد إلا مرتبطة بعضها ببعض، لكي تتكامل، في خدمة بعضها البعض
341- جمال الكون : نظام العالم المخلوق وتناسقه هما نتيجة تنوع الكائنات والعلاقات القائمة بينها. والإنسان يكتشفهما شيئاً فشيئاً على أنهما من نواميس الطبيعة. إنهما موضوع إعجاب العلماء. إن جمال الخليقة يعكس جمال الخالق غير المتناهي. فيجب أن تستدعي الاحترام والخضوع لدى عقل الإنسان وإرادته.
342- هرمية الخلائق يعبر عنها نظام “الأيام الستة” الذي يذهب من الأقل كمالاً إلى الأكثر كمالاً. الله يحب جميع خلائقه ، ويعتني بكل واحدة منها، حتى أصغر العصافير. ومع ذلك فيسوع يقول: “أنتم أفضل من عصافير كثيرة” ( لو 7:12)، أو أيضاً: ” والإنسان كم يفضل الخروف” ( متى 12:12 ).
343- الإنسان قمة عمل الخلق. والرواية الملهمة تعبر عن ذلك مميزة بوضوح خلق الإنسان من خلق سائر المخلوقات .
344- بين جميع الخلائق تكافل من حيث إن لجميعها خالقاً واحداً، وإنها جميعاً موجهة في سبيل مجده:
“لك المديح، يا رب، في جميع خلائقك، ولاسيما السيدة أختنا الشمس، التي تمنحنا بها، في النهار، النور، إنها جميلة، ولها إشعاع شديد التألق، وهي عنك، أيها العلي، تقدم لنا الرمز ….
لك المديح، يا رب، لأجل أخينا الماء، ذي النفع العظيم والتواضع الشديد، الثمين والطاهر ….
لك المديح، يا رب، من أجل الأخت أمنا الأرض، التي تحملنا وتقوتنا، التي تؤثي الثمار المتنوعة مع الأزهار المختلفة الألوان والأعشاب …..
سبحوا وباركوا ربي، وأحمدوه واخمدوه في كل تواضع” .
345- السبت هو نهاية عمل ” الأيام الستة”. الكتابة المقدسة تقول إن “الله فرغ من عمله في اليوم السابع” و”أكملت هكذا السماء والأرض”، وإن الله “استراح” في اليوم السابع، وبارك وقدس ذلك اليوم ( تك 1:2- 3 ). في هذه الأقوال الملهمة جم من التعاليم الخلاصية :
346- في الخلق أرسى الله أساساً وأنظمة ثابتة لا تتغير ، يستطيع المؤمن أن يستند إليها بثقة، وتكون له علامة وضمان أمانة عهد الله التي لا تتزعزع . وعلى الإنسان، من جهته، أن يظل وفياًّ.
347- عُمل عملُ الخلق من أجل السبت ومن ثم من أجل عبادة الله. العبادة مسجلة في نظام الخلق . وقد ورد في قانون القديس بندكتوس أنه “لا يفضل شيء على عبادة الله” ، مشيراً هكذا إلى النظام الصحيح في الاهتمامات البشرية.
348- السبت هو في قلب شريعة اسرائيل. وحفظ الوصايا هو التلبية لحكمة الله ومشيئته اللتين يعبر عنهما عمل الخلق.
349- اليوم الثامن. ولكن بالنسبة إلينا قد طلع يوم جديد: يوم قيامة المسيح. اليوم السابع يتم الخلق الأول. اليوم الثامن يفتتح الخلق الجديد. وهكذا فعمل الخلق يرقى إلى عمل أعظم هو الفداء. الحق الأول يجد معناه وقمته في الخلق الجديد في المسيح الذي يفوق ألقه ألق الخلق الأول .
بإيجاز:
350- الملائكة مخلوقات روحانية تمجد الله بلا انقطاع، وتخدم مقاصده الخلاصية بالنسبة إلى سائر المخلوقات: “الملائكة يتضافرون على كل ما هو صالح لنا”.
351- الملائكة يحيطون بالمسيح، ربهم. إنهم يخدمونه على وجه خاص في قيامه برسالته الخلاصيّة تجاه البشر.
352- الكنيسة تكرم الملائكة الذين يساعدونها في مسيرتها الأرضية، الذين يحرسون كل كائن بشري.
353- الله أراد تنوع خلائقه، وجودتها الخاصة، وترابطها، ونظامها. وقد وجه جميع المخلوقات المادية إلى ما هو في صالح الجنس البشري. الإنسان، ومن خلاله كل الخليقة، يسير في خط مجد الله.
354- احترام الشرائع المكتوبة في الخليقة والعلاقات التي تصدر عن طبيعة الأشياء هو مبدأ حكمة وأساس للأخلاقيات.
الفقرة 6- الإنسان
355- ” خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم “( تك 27:1). فللإنسان محل فريد في الخليقة: إنه “على صورة الله” (1)؛ في طبيعته الخاصة يجمع ما بين العالم الروحاني والعالم المادي(2)؛ خلق “ذكراً وأنثى”(3) ؛اختصه الله بصداقته (4) .
1. ” على صورة الله ”
356- بين جميع الخلائق المرئية، الإنسان وحده يستطيع أن يعرف خالقه ويحبه ” . إنه “على الأرض الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها” . إنه وحده المدعو إلى المشاركة في حياة الله بالمعرفة والمحبة. لقد خلق لهذه الغاية، وهذا هو سبب كرامته الرئيسي:
” ما الداعي الذي جعلك تكون الإنسان على مثل هذه العظمة؟ المحبة العظمى التي نظرت بها إلى خليقتك في ذات نفسك، وقد شغفت بها؛ إذ إنك خلقتها بمحبة، وبمحبة أعطيتها كياناً قادراً أن يتذوق خيرك الأزلي” .
357- بما أن الفرد البشري على صورة الله فمقامه مقام شخص: فهو ليس شيئاً ما وحسب، بل هو شخص ما. إنه قادر على أن يعرف نفسه، وأن يضبطها، وأن يبذل ذاته باختياره، وأن يدخل في شركة غيره من الأشخاص؛ وهو مدعو، بالنعمة، إلى معاهدة مع خالقه، وإلى تلبيته تلبية إيمان ومحبة لا يستطيع أحد غيره أن يقوم مقامه فيها.
358- الله خلق كل شيء للإنسان ، ولكن الإنسان خلق لخدمة الله ومحبته، ولكي يقدم له ” فمن هو الكائن الذي سيأتي إلى الوجود في مثل هذه الهالة من التقدير؟ إنه الإنسان، الوجه الحي العظيم والعجيب، الأكرم في عيني الله من الخليقة كلها جمعاء: إنه الإنسان، ولأجله وجدت السماء والأرض والبحر وسائر الخليقة، وخلاصه هو الذي علق عليه الله مثل هذه الأهمية حتى إنه لم يوفر ابنه الوحيد نفسه في سبيله. وعن الله ما انفك يسعى السعي كله لكي يرقى بالإنسان إليه ويجلسه إلى يمينه” .
359- “إن سر الانسان لا يفسره تفسيراً حقيقياً إلا سر الكلمة المتجسد” .
” القديس بولس يعلمنا أن رجلين اثنين هما في أساس الجنس البشري “آدم والمسيح … وهو يقول: إن آدم الأول خلقه الآخر ومنه نال النفس التي تحييه … آدم الثاني جعل صورته في آدم الأول عندما كان يجلبه. من هنا ألقيت عليه مهمته واسمه وذلك لكي لا يعرض من صنعه على صورته للضياع. آدم الأول، آدم الأخير: الأول ابتدأ ، والأخير لن ينتهي؛ إذ إن الأخير هو الأول في الحقيقة، على حد ما قال هو نفسه:” أنا الأول والأخير” .
360- إذ كان الجنس البشري من أصل مشترك فهو يؤلف وحدة؛ ذلك أن الله ” صنع من واحدٍ كل أمة من البشر “( أع 26:17) :
” إنها لرؤيا عجيبة تلك التي تجعلنا نتأمل الجنس البشري في وحدة أصله في الله؛ في وحدة طبيعته، المركبة عند الجميع تركيباً واحداً من جسم مادي ونفس روحانية؛ في وحدة غايته الفورية ورسالته في العالم؛ في وحده مسكنه: الأرض التي يستطيع جميع البشر، بحق طبيعي، أن يستعملوا خيراتها لكي يحافظوا على الحياة وينموها؛ في وحدة غايته العليا: الله نفسه الذي يجب على الجميع أن يتوجهوا إليه؛ في وحدة الوسائل لبلوغ هذه الغاية؛ (…) ؛ في وحدة الافتداء الذي قام به المسيح لأجل الجميع ” .
361- ” نظام التضامن البشري والمحبة هذا ” ، فضلاً عن وفرة تنوع الأشخاص، والثقافات والشعوب، يؤكد لنا أن جميع البشر إخوة في الحقيقة.
2. “واحدٌ من جسدٍ ونفسٍ”.
362- الشخص البشري، المخلوق على صورة الله، كائن جسدي وروحاني معا. والرواية الكتابية تعبر عن هذه الحقيقة بكلام رمزي عندما تثبت أن “الله جبل الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حية”( تك 7:2 ). فالإنسان بكامله كان في إرادة الله.
363- كثيراً ما ترد اللفظة نفس في الكتاب المقدس بمعنى الحياة البشرية ، أو كامل الشخص البشري . ولكنها تدل أيضاً على أعمق ما في الإنسان وأثمن ما فيه ، أي ما يجعله على وجه أخص صورة لله: “نفس” تعني مبدأ الإنسان الروحاني .
364- يشترك جسد الإنسان في كرامة”صورة الله”: إنه جسد بشري لأن النفس الروحانية تبث فيه الحياة، والشخص البشري بكامله معد لأن يصبح، في جسد المسيح، هيكل الروح :
” الإنسان واحد بجسده ونفسه، وهو بوضعه الجسدي نفسه يجمع في ذاته عناصر العالم المادي، بحيث تبلغ فيه قمتها، وترفع بحرية إلى الخالق صوت حمدها. فلا يجوز للإنسان إذن أن يحتقر الحياة الجسدية، بل عليه أن يعامل جسده بالإحسان والإكرام لأنه خليقة الله ومعد للقيامة في اليوم الأخير” .
365- وحدة النفس والجسد هي من العمق بحيث يجب أن تعد النفس “صورة” الجسد ؛ أي أن الجسد المركب من مادة يصبح بالنفس الروحانية، جسداً إنسانياً وحياً ؛ الروح والمادة، في الإنسان، ليسا طبيعتين اثنتين متحدتين، ولكن اتحادهما يكون طبيعة واحدة .
366- الكنيسة تعلم أن كل نفس روحانية يخلقها الله مباشرةً ؛ – إنها ليست من ” صنع “الوالدين-؛ وهي تعلمنا أيضاً أنها غير مائتة ؛ إنها لا تتلاشى عندما تفارق الجسد بالموت، وهي تعود إلى الاتحاد بالجسد في القيامة الأخيرة.
367- يحصل أحياناً أن تميز النفس من الروح. وهكذا فالقديس بولس يصلي. قائلا:” وليحفظ كل ما فيكم أرواحكم، ونفوسكم، وأجسادكم، بغير لوم عند مجيء ربنا”(1 تس 23:5). والكنيسة تعلم أن هذا التمييز لا يدخل في النفس ازدواجية .” الروح يعني أن الإنسان موجه منذ خلقه إلى غايته الفائقة الطبيعة ، وأن نفسه قادرة على أن ترقى مجانا إلى الشركة مع الله .
368- تقليد الكنيسة الروحي يشدد على القلب بالمعنى الكتابي ل ” عمق الكيان” (ار 33:31) حيث يقرر الشخص أنه لله أو لا.
3. “ذكرا وأنثى خلقهم”
مساواة واختلاف إرادهما الله
369- الرجل والمرأة خلقا أي أن الله أرادهما: في مساواة كاملة، لكونهما شخصين بشريين من جهة، ومن جهة أخرى بكيانهما الخاص رجلا وامرأة. أن يكون ” رجلا” وأن تكون “امرأة” تلك حقيقة حسنة وقد أرادها الله: للرجل والمرأة كرامة ثابتة تأتيهما مباشرة من الله خالقهما . الرجل والمرأة هما، في الكرامة الواحدة،على صورة الله. وهما يعكسان حكمة الخالق وجودته في “كيان الرجولة” وفي ” كيان الأنوثة”.
370- ليس الله على صورة الإنسان البتة. فهو ليس رجلا ولا امرأة. الله روح محض ليس فيه مكان لاختلاف الجنسين. ولكن “كمالات” الرجل والمرأة تعكس شيئا من كمال الله غير المتناهي: كمالات الأم ، وكمالات الأب والزوج .
“الواحد للآخر”- “وحدة اثنين”
371- الرجل والمرأة خلقا معا، وقد أرادهما الله الواحد للآخر. وكلام الله يسمعنا ذلك بتلميحات مختلفة في النص المقدس.”لا يحسن أن يكون الإنسان وحده فاصنع له عونا بإزائه”( تك 18:2). ما من حيوان يمكن أن يكون هذا ال ” بازاء” الإنسان .
المرأة التي “بناها” الله من الضلع التي أخذها من الرجل، والتي بها الرجل، تبعث من الرجل صراخ إعجاب، صراخ محبة وشركة: “هو ذا هذه المرة عظم من عظامي ولحم من لحمي”( تك 23:2). الرجل يكتشف في المرأة “أنا” آخر، من البشرية نفسها.
372- الرجل والمرأة صنعا ” الواحد للآخر”: لا إن الله صنعهما ” نصفين” و ” غير كاملين”؛ إنه خلقهما لشركة شخصين يستطيع فيها كل واحد أن يكون ” عونا” للآخر، لأنهما في الوقت نفسه متساويان لكونهما شخصين (“عظم من عظامي”) ومتكاملين لكونهما ذكرا وأنثى . وفي الزواج يجمعهما الله بحيث، وهما “جسد واحد”(تك 24:2)، يستطيعان أن يعطيا الحياة البشرية: “انموا واكثروا واملأوا الأرض” تك (28:1). والرجل والمرأة، زوجين ووالدين، عندما يعطيان نسلهما الحياة البشرية يسهمان إسهاما فريدا في عمل الخالق .
373- الرجل والمرأة مدعوان، في تصميم الله، “لإخضاع” الأرض على أنهما “وكلاء” الله. وهذه السيطرة يجب أن لا تكون تسلطا تعسفيا وهداما. فالرجل والمرأة مدعوان،على صورة الخالق الذي ” يحب جميع الكائنات” (حك 25:11)، إلى الاشتراك في ” العناية الإلهية” تجاه جميع المخلوقات.من هنا مسؤوليتهما عن العالم الذي عهد الله فيه اليهما.
4. الإنسان في الفردوس
374- الإنسان الأول لم يخلق صالحا وحسب، ولكنه أقيم في صداقة مع خالقه، وفي تناغم مع ذاته ومع الخليقة التي حوله والتي لا يفوقها إلا مجد الخليقة الجديدة في المسيح.
375- الكنيسة، عندما تفسر رمزي الكلام الكتابي على نور العهد الجديد والتقليد تفسيرا أصيلا، تعلم أن أبوينا الأولين، آدم وحواء، أقيما في حالة ” قداسة وبر أصلي” . ونعمة القداسة الأصلية هذه كانت اشتراكا في الحياة الإلهية .
376- بإشعاع هذه النعمة تقوت جميع أبعاد الحياة البشرية. فما دام الإنسان في صداقة مع الله كان في منجى من الموت ومن الألم . فالتناغم في داخل الشخص البشري، والتناغم بين الرجل والمرأة ، وأخيرا التناغم بين الزوجين الأولين وجميع الخليقة، كانت تؤلف الحالة المدعوة “برارة أصلية”.
377- ” إخضاع ” العالم الذي ألقى به الله إلى الإنسان منذ البدء كان يتحقق قبل كل شيء في الإنسان نفسه بالانضباط الذاتي. كان الإنسان في كامل ذاته كاملا ومنظما، إذ كان محررا من الشهوات الثلاث التي كانت تخضعه لمتع الحواس، للتجشع في الخيرات الأرضية، وإثبات الذات في وجه أوامر العقل.
378- وكانت علامة الفته مع الله أن جعله الله في الجنة . فعاش فيها ” يحرث الأرض ويحرسها”(تك 15:2): ليس العمل مشقة ولكنه إسهام الرجل والمرأة مع الله في إكمال الخليقة المرئية.
379-هذا التناغم كله في البرارة الأصلية، الذي هيىء للإنسان في تصميم الله، سيفقد بخطيئة أبوينا الأولين.
بإيجاز:
380-“ولقد صنعت الإنسان على صورتك، يا الله، وجعلت الكون بين يديه، حتى إذا خدمك، أنت خالقه، كان سيد الخليقة” .
381- الإنسان مهيأ لأن ينقل صورة ابن الله المتأنس-“صورة الله غير المنظور”(كو 1: 15)– حتى يكون المسيح بكرا ما بين جم غفير من إخوة وأخوات .
382-الإنسان “واحد من جسد ونفس” .عقيدة الإيمان تثبت أن النفس الروحانية والغير الماثتة يخلقها الله مباشرة.
383-“الله لم يخلق الإنسان وحيدا: منذ البدء “ذكرا وأنثى خلقهم”(تك 1: 27)، وهذا الجمع بين الرجل والمرأة هو الصورة الأولى لتشارك الأشخاص”
384- الوحي يطلعنا على حالة القداسة والبرارة الأصليين عند الرجل والمراة قبل الخطيئة: كانت صداقتهما مع الله في أصل سعادة وجودهما في الفردوس.
الفقرة 7- السقوط
385-الله غير متناهي الجودة وجميع أعماله حسنة. ولكن لا أحد ينجو من تجربة الألم، من تجربة شرور الطبيعة- التي تبدو شبه مرتبطة بحدود الخلائق الخاصة- ولا سيما من مسالة الشر الأدبي. من أين يأتي الشر”؟يقول القديس اوغسطينوس: “لقد فتشت من أين ياتي الشر ولم أجد حلا” ، ولن يجد بحثه الخاص الأليم مخرجا إلا في اهتدائه إلى الله الحي. فإن “سر الإثم”(2 تس 2: 7) لن يتضح إلا على نور سر التقوى . إن كشف المحبة الإلهية في المسيح أظهر مدى الشر وفيض النعمة معا . يجب أن نعرض إذن لمسالة مصدر الشر ونظر إيماننا مثبت على من هو، وحده، غالب الشر .
1. حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة
حقيقة الخطيئة
386- الخطيئة موجودة في تاريخ الإنسان: قد تكون من العبث محاولة تجاهلها، أو إلقاء أسماء أخرى على هذه الحقيقية الغامضة. ولكي نحاول فهم ما هي الخطيئة، يجب أولا معرفة صلة الإنسان العميقة بالله، إذ أنه خارج هذه العلاقة لا يكشف عن شر الخطيئة في حقيقية كونه رفضا ومقاومة في وجه الله، مع بقائه عبثا ثقيلا على حياة الإنسان وعلى التاريخ.
387- حقيقية الخطيئة، ولا سيما خطيئة الأصول، لا تتضع إلا على نور الوحي الإلهي. فبدون المعرفة التي يعطيناها عن الله لا تمكن معرفة الخطيئة معرفة واضحة، فنكون معرضين لتفسيرها على أنها نقص في النمو فقط، ضعف نفسي، ضلال، نتيجة حتمية لبنية اجتماعية غير ملائمة الخ. ففي معرفة قصد الله بالنسبة إلى الأنسان فقط تفهم الخطيئة على أنها سوء استعمال للحرية التي يمنحها الله للأشخاص المخلوقين، لكي يتمكنوا من محبة ومن محبة بعضهم البعض.
الخطيئة الأصلية –حقيقية جوهرية من حقائق الإيمان
388- بنمو الوحي اتضحت أيضا حقيقية الخطيئة. وأن عرض شعب الله في العهد القديم لآلام الوضع البشري على نور تاريخ السقوط الوارد في سفر التكوين، فإنه لم يكن باستطاعته الوصول إلى المعنى البعيد لهذا التاريخ، الذي ينجلي فقط على نور موت يسوع المسيح وقيامته . يجب معرفة المسيح ينبوعا للنعمة لمعرفة آدم ينبوعا للخطيئة. الروح –البارقليط الذي أرسله المسيح المنبعث، هو الذي جاء لكي “يفحم العالم بشأن الخطيئة”(يو 16: 8)، إذ كشف عن الذي افتدى من الخطيئة.
389-عقيدة الخطيئة الأصلية هي على نحو ما “الوجه المناقض” للبشري الصالحة بأن يسوع هو مخلص جميع البشر، وبأن الجميع بحاجة إلى الخلاص ،وبأن الخلاص مقدم للجميع بفضل المسيح. والكنيسة التي عندها فكر المسيح تعلم جيدا أنه لا يمكن المساس بوحي الخطيئة الأصلية بدون الإساءة الى سر المسيح.
لقراءة قصة السقوط
390-قصص السقوط (تك 3) يعتمد أسلوبا خياليا، ولكنه يؤكد حدثا ذا أهمية كبيرة حدثا جرى في البدء تاريخ الإنسان . والوحي يعطينا اليقين الإيماني، بأن تاريخ البشر كله موسوم بالخطيئة الأصلية التي اقترفها أبوانا الأولان باختيارهما
2.سقوط الملائكة
391- وراء اختيار أبوينا الأولين المعصية صوت مغر معارض الله يحملهما ،حسدا، على السقوط في الموت . الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة يريان في هذا الكائن ملاكا ساقطا يدعى شيطانا أو ابليس . الكنيسة تعلم أنه كان أولا ملاكا صالحا من صنع الله”الشيطان وسائر الأبالسة خلقهم الله صالحين في طبيعتهم ،ولكنهم هم بأنفسهم انقلبوا أشرارا” .
392-الكتاب المقدس يذكر لهؤلاء الملائكة خطيئة . وهذا “السقوط” يقوم باختيار حر لهؤلاء الأرواح المخلوقة، الذين رفضوا رفضا باتا وثابتا الله وملكوته. وإننا نجد إشارة إلى هذا العصيان في أقوال المجرب لا بوينا الأولين :”تصيران كآلهة”(تك 3: 5). الشيطان “خاطىء من البدء”(1يو 3: 8)،”آبو الكتاب “(يو 8: 44).
393-إن ميزة الاختيار الثابت للملائكة، لا تقصير من الرحمة الإلهية غير المتناهية، هي التي جعلت خطيئتهم غير قابلة الغفران. “لا ندامة لهم بعد السقوط ،كما أنه لا ندامة للبشر بعد الموت” .
394-الكتاب المقدس يثبت الأثر المشؤوم للذي يدعوه يسوع “من البدء قتال الناس”(يو 8: 44)، والذي حاول أن يحول يسوع نفسه عن الرسالة التي تقبلها من الآب . “ولهذا ظهر ابن الله: لينتقض أعمال ابليس”(1يو 3: 8). وأفظع نتائج أعماله كان الإغراء الكاذب الذي جر الإنسان إلى عصيان الله.
395 –ولكن مقدرة ابليس ليست غير متناهية. إنه مجرد خليقة، قديرة لكونها روحا محضا، ولكنه لا يخرج عن كونه خليقة: لا يستطيع أن يمنع بناء ملكوت الله. وأن عمل ابليس في العالم بعامل الحقد على الله وملكوته في يسوع المسيح، وإن كان لعمله أضرار جسيمة –على المستوى الروحي وأحيانا، وبطريقة غير مباشرة، على المستوى الطبيعي نفسه – لكل إنسان وللمجتمع، فهذا العمل تسمح به العناية الإلهية التي توجه تاريخ الإنسان والعالم بقوة ولين. والسماح الإلهي بهذا العمل الشيطاني سر عظيم، ولكننا “نعلم أن الله في كل شيء يسعى الخير الذين يحبونه”(رو 8: 28).
3.الخطيئة الأصلية
تجربة الحرية
396-الله خليقة الإنسان على صورته وأقامه في صداقته. وإذ كان الإنسان خليقة روحانية، فهو لا يستطيع أن يعيش في هذه الصداقة إلا عن طريق الخضوع الحر الله. وهذا ما يعبر عنه منع الإنسان من أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر ،”فإنك يوم تأكل منهما تموت موتا”(تك 2: 17). “شجرة معرفة الخير والشر “(تك 2: 17) توحي رمزيا بالحد الذي لا يمكن تجاوزه والذي يجب على الإنسان، في كونه مخلوقا، أن يعترف به اختياريا وأن يقف عنده بثقة. الإنسان متعلق بالخالق ،وهو خاضع لنواميس الخليقة، وللنظم الأخلاقية التي تنظم استعمال الحرية.
خطيئة الإنسان الأولى
397-الانسان، عندما جربه الشيطان، قضى في قلبه على الثقة بخالفه . وعندما أساء استعمال حريته، عصى وصية الله. في هذا قامت خطيئة الإنسان الأولى . وكل خطيئة، في ما بعد، ستكون عصيانا الله، وعدم ثقة في صلاحه.
398- في وهذه الخطيئة فضل الإنسان نفسه على الله، وبذالك عينه حقر الله: اختار ذاته على الله،على مقتضيات كونه خليقة، ومن ثم على صالحه الخاص. وإذ كان الإنسان مخلوقا في حالة قداسة، فقد كان معدا لأن “يؤلهه”الله تأليها كاملا في المجد . وبإغراء من ابليس أراد أن “يكون مثل الله” ، ولكن “بدون الله، وليس بحسب الله” .
399-الكتاب المقدس يبين عواقب هذه المعصية الأولى الماسوية. فقد آدم وحواء حالا حالة البرارة الأصلية . لقد خافا من هذا الإله الذي تصوراه على غير صورته ،على صورة إله غيور على امتيازاته .
400-التناسق الذي كانا عليه، والذي أولتهما إياه حالة البرارة الأصلية، قد تهدم ،وسيطرة قوى النفس الروحانية على الجسد تحطمت ، اتحاد الرجل والمراة أصبح تحت تأثير المشادات ، وعلاقاتهما ستكون موسومة بسمة الشهوة والسيطرة . التناسق مع الخليقة نقض: الخليقة المنظورة أصبحت بالنسبة إلى الإنسان غريبة ومعادية ، ويسبب الإنسان أخضعت الخليقة لعبودية الفساد . وأخيرا فإن العاقبة التي أنبىء بها بصراحة لمعصية الإنسان ستتحقق:”سيعود الإنسان إلى الأرض التي منها أخذ” . وهكذا دخل الموت في تاريخ البشرية .
401- منذ هذه الخطيئة الأولى،غمر العالم”اجتياح”للخطيئة حقيقي: قتل قاين أخاه هابيل ، الفساد الشامل في عقب الخطيئة ، كذالك في تاريخ اسرائيل، فكثيرا ما تبرز الخطيئة كعصيان خاص لإله العهد، وكمخالة لشريعة موسى، وبعد فداء المسيح أيضا، تبرز الخطيئة بين المسيحيين على وجوه متعددة . والكتاب المقدس وتقليد الكنيسة لا يزالان يذكران بوجود الخطيئة وشمولها في تاريخ الإنسان:
“ما يكشفه لنا الوحي الإلهي يتفق ومعطيات خبرتنا.فإن تفحص الإنسان قلبه وجد أنه ميال إلى الشر أيضا، وأنه غارق في غمر من الشرور لا يمكن أن تصدر عن خالقه الصالح. فكثيرا ما يرفض الإنسان أن يرى في الله مبدأه، فينقض النظام الذي يتواجه به إلى غايته القصوى، وينقض في الوقت نفسه كل تناغم في ذاته أو بالنسبة إلى سائر البشر وإلى الخليقة كلها” .
عواقب خطيئة آدم في البشرية
402- جميع البشر متورطون في خطيئة آدم. القديس بولس يثبت ذلك: “جعل الكثيرون (أي جميع البشر)خطاة بمعصية إنسان واحد”(رو 5: 19): “كما أنها بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن جميعهم قد خطئوا…”(رو 5: 12). وقد قابل الرسول شمولية الخطيئة والموت بشمولية الخلاص بالمسيح: “كما أنه بزله واحد كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببر واحد (بر المسيح) يكون لجميع تبرير الحياة” (رو 5: 18).
403- لقد اتبعت الكنيسة القديس بولس، فعلمت دائما أن الشقاء العارم الذي يبهظ البشر، وميلهم إلى الشر وإلى الموت لا يفهمان بمعزل عن علاقتهم بخطيئة آدم، وبواقع أنه أورثنا خطيئة نولد حاملين وزرها وهي “موت النفس” . وانطلاقا من هذا اليقين العقائدي تمنح الكنيسة المعمودية لمغفرة الخطايا، حتى للأطفال الصغار الذين لم يرتبكوا خطيئة شخصية .
404- كيف أصبحت خطيئة آدم خطيئة ذريته كلها؟ الجنس البشري كله في آدم “كانه الجسد الواحد لإنسان واحد” . وبسبب “وحدة الجنس البشري هذه”جميع البشر داخلون في خطيئة آدم، كما آنهم داخلون جميعا في تبرير المسيح. ومع ذلك فإن انتقال الخطيئة الأصلية سر لا نستطيع إدراكه إدراكا تاما. إلا أننا نعلم عن طريق الوحي أن آدم نال القداسة والبرارة الأصليتين، لا له وحده، بل للطبيعة البشرية كلها :وبانقياد آدم وحواء للمجرب، ارتكبا خطيئة شخصية، ولكن هذه الخطيئة انتقل أثرها إلى الطبيعة البشرية التي سينقلانها وهما في حالة سقوط . إنها خطيئة ستنتقل إلى جميع البشر عن طريق التفشي، أي بنقل طبيعة بشرية مجردة من القداسة والبرارة الأصليتين. ولهذا فالخطيئة الأصلية مدعوة”خطيئة”على سبيل المشابهة: إنها خطيئة “موروثة” لا “مرتكبة”، حالة لا فعل.
405-وإن كان كل إنسان مخصوصا بالخطيئة الأصلية ، فإنها ليست ذات طابع شخصي عند أي من أبناء آدم. إنها حرمان من القداسة والبرارة الأصليتين، ولكن الطبيعة البشرية ليست منفسدة انفسادا كاملا: لقد جرحت في قواها الطبيعة الخاصة، وأخضعت للجهل والألم وسلطان الموت، ومالت إلى الخطيئة (وهذا الميل إلى الشر يسمى”شهوة”). والمعمودية يمنحها حياة نعمة المسيح، تمحو الخطيئة، تمحو الخطيئة الأصلية وترد الإنسان إلى الله، ولكن العواقب في الطبيعة المضعفة والميالة إلى الشر، تبقى في الإنسان وتدعوه إلى الجهاد الروحي.
406-إن عقيدة الكنيسة في موضوع انتقال الخطيئة الأصلية اكتسبت دقة خصوصا في القرن الخامس، ولا سيما مع القديس اوغسطينوس في دفق تأملاته ضد البلاجية،وفي القرن السادس عشر في مناهضة البروتستانية .كان بلاجيوس يعتقد أن الإنسان يستطيع، بقوة إرادته الطبيعة الحرة، بدون معونة نعمة الله الضرورية أن يسلك سلوكا صالحا أدبيا، كان بذالك يحول تأثير خطيئة آدم إلى تأثير مثال سيء .ويعكس ذلك كان دعاة الإصلاح البروتستاني الأولون يعلمون أن الإنسان قد أصبح في عمقه فاسدا وأن حريته أصبحت، بخطيئة الأولين، معطلة. كانوا يوحدون ما بين الخطيئة التي ورثها كل إنسان والميل إلى الشر(الشهوة) الذي لا يمكن التغلب عليه .وقد أثبتت الكنيسة موقفها في معنى الوحي المتعلق بالخطيئة الأصلية في مجمع اورانج الثاني سنة 529 ، وفي المجمع التريدنتيني، سنة 1546 .
صراع عنيف
407- عقيدة الخطيئة الأصلية – مقرونة بعقيدة فداء المسيح- تخول نظرة تمييز واضح في شأن موقع الإنسان وعمله في العالم. بخطيئة الأبوين الأولين اكتسب الشيطان شبه سيطرة على الإنسان، وإن لبث هذا حرا. الخطيئة الأصلية تجر “العبودية تحت السلطان ذاك الذي كان بيده سلطان الموت، أعني ابليس” تجاهل كون الإنسان ذا طبيعة مجروحة، ميالة إلى الشر، يفسح المجال لأضاليل جسيمة في موضوع التربية، والسياسة، والعمل الاجتماعي ، والأخلاق.
408-عواقب الخطيئة الأصلية، وجميع خطايا البشر الشخصية، تصم العالم، في مجمله، بوصمة الخطيئة، التي يمكن أن يطلق عليها تعبير القديس يوحنا “خطيئة العالم” (يو 1: 29). بهذا التعبير يشار أيضا إلى التأثير السلبي الذي تلحقه بالأشخاص الأحوال المجتمعية، والبنى الاجتماعية، التي هي ثمرة آثام البشر .
409-الحالة المأسوية هذه التي يقيم فيها العالم “كله تحت سلطان الشرير”(1 يو 5: 19 تجعل حياة الإنسان صراعا:”يتخلل تاريخ البشر العام صراع عنيف تقاوم به قوى الظلمة، وقد بدا مع وجود العالم وسيبقى، على حد قول الرب، إلى اليوم الآخر . فعلى الإنسان وقد أدخل المعركة، أن يناضل أبدا لكي يلزم الخير، وهو لن يستطيع تحقيق وحدته الذاتية إلا بعد جهود شديدة، وبمؤازرة النعمة الإلهية” .
4.”إنك لم تسلمه لسلطان الموت”
410- الله لم يتخل عن الإنسان بعد سقوطه. فهو، بعكس ذلك، يدعوه ويبشره ،بطريقة سرية، بالتغلب على الشر وبإقالته من عثرته . هذا المقطع من سفرالتكوين سمي”مقدمة الإنجيل “لأنه البشرى الأولى بالمسيح الفادي، البشرى بصراع بين الحية والمرأة، وبالانتصار النهائي لنسل هذه المرأة.
411- التقليد المسيحي يرى في هذا المقطع البشرى ب “آدم الجديد” الذي، “بطاعته حتى الموت موت الصليب” (في 2 : 8) يعوض تعويضا لا يقاس عن معصية آدم وإلى ذلك فإن كثيرين من آباء الكنسية وملافنتها يرون في المرأة التي ورد ذكرها في “مقدمة الإنجيل “أم المسيح، مريم، على أنها “حواء الجديدة”. إنها تلك التي كانت الأولى، وبطريقة فريدة، استفادة من الانتصار على الخطيئة الذي حققه المسيح: لقد صينت من دنس الخطيئة الأصلية كله ، وعلى مدى حياتها الأرضية كلها لم ترتكب أي نوع من الخطيئة، وذلك بنعمة خاصة من الله .
412-ولكن لماذا لم يمنع الله الإنسان الأول من أن يخطأ؟ يجيب عن ذلك القديس لاون الكبير: “نعمة المسيح التي لا توصف وهبتنا خيرات أعظم من تلك التي كان حسد ابليس قد انتزعها منا” . والقديس توما الاكويني يقول: “لا شيء يمنع من أن تكون الطبيعة البشرية قد أعدت لغاية أرفع من الخطيئة. فإن الله يسمح بأن تحصل الشرور لكي يستخرج منها خيرا أعظم. من هنا قول القديس بولس: “حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة”(رو 5: 20). ومن هنا يقال في بركة شمعة الفصح: “يا للخطيئة السعيدة التي استحقت هكذا فاديا وبمثل هذه العظمة” .
بإيجاز:
413- ” ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الأحياء يسره (…).بحسد ابليس دخل الموت إلى العالم” (حك 13:1؛ 24:2).
414- الشيطان أو ابليس وسائر الشياطين هم ملائكة ساقطون لأنهم رفضوا باختيارهم أن يخدموا الله وقصده. واختيارهم ضد الله نهائي. وهم يعملون على إشراك الإنسان في ثورتهم على الله.
415- “أقام الله الإنسان في حالة برارة. ولكن الشرير أغواه منذ بدء التاريخ، فأساء استعمال حريته، منتصبا في وجه الله، وراغبا في أن يبلغ غايته من دون الله”.
416- في كون آدم الإنسان الأول، أضاع بخطيئته القداسة والبرارة الأصليتين اللتين كان قد نالها من الله، ليس فقط لنفسه، بل لجميع البشر.
417- لقد أورث آدم وحواء ذريتهما الطبيعة البشرية مجروحة بخطيئتهما الأولى، ومن ثم مجردة من القداسة والبرارة الأصليتين. وهذا الحرمان يسمى ” خطيئة أصلية”.
418- نتج عن الخطيئة الأصلية أن الطبيعة البشرية أضعفت في قواها، وأخضعت للجهل، والألم وسيطرة الموت، ومالت إلى الخطيئة (وهذا الميل يسمى “شهوة”).
419- ” فنحن نعتقد، مع المجمع التريدنتيني، إن الخطيئة الأصلية تنتقل مع الطبيعة البشرية،”لا تقليدا بل انتشارا”، وهي هكذا “خاصة بكل واحد” .
420- الانتصار على الخطيئة الذي حققه المسيح أعطى خيرات أفضل من تلك أفقدتها الخطيئة: “حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة”(رو 20:5).
421- ” في إيمان المسيحيين أن هذا العالم هو وليد محبة الله وحفيظها، سقط في عبودية الخطيئة، ولكن المسيح قد حطم بالصليب والقيامة شوكة الشرير وحرره…” .
Discussion about this post